نواصل مع ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم (الأزهر والسياسة) الذي لا يزال تحت الترجمة:
وبالإضافة إلى السيطرة التامة على الأزهر، كانت الحكومة المصرية حريصة على السيطرة على آلاف المساجد في مصر. تقليديا، ظلّت المساجدُ المصرية خارج سيطرة الدولة؛ ولكن مع تأميم أراضي الوقف، أصبحت الحكومة على نحو متزايد مسؤولة عن إدارة المساجد. وهذا يتفق مع سياسة الحكومة تجاه الأزهر، لأن المساجد الخاصة التي لا تخضع لسيطرة الحكومة يمكن أن تشكل تحديا خطيرا للدولة؛ فلا توجد منظمة اجتماعية أخرى قادرة على تجميع الجماهير أسبوعيا والتأثير عليهم مثل المساجد (22).
ومنذ عام 1952 حتى اليوم، شاركت حكومات ناصر والسادات ومبارك في برنامج طموح لتأميم والسيطرة على جميع المساجد تقريبا. (23) وتوضح الزيادة السريعة في نسبة ملكية الدولة للمساجد التزام الحكومة الجدي بمشروع تأميم المساجد. ومع أن الحكومة زادت حصة المساجد المملوكة للدولة بطريقة هامشية بين عامي 1962 و1982، إلا أنها نجحت نجاحا كبيرا في زيادة عدد المساجد التي تلقت دعم الدولة.
وزاد دعم الدولة - على الأقل من الناحية النظرية - من مقدار سيطرة الحكومة على المساجد الخاصة. وتحت قيادة مبارك، زادت الحكومة وتيرة تأميم المساجد كثيرا، وقلّصت عدد تصاريح المساجد الخاصة الجديدة؛ وهو ما أدى إلى زيادة حصة المساجد المملوكة للدولة إلى 71 % من المجموع.
واستهدفت أكثر جهود تأميم المساجد، وخاصة في السنوات الأخيرة، المساجد الواقعة في المراكز الحضرية في القاهرة وصعيد مصر، حيث تركزت معظم أحداث العنف الإسلاموية (24). وإذا كانت الأرقام ليست متوفرة بسهولة حول تكلفة مشروع التأميم المذكور، فإنه من الواضح أن الحكومة أنفقت كمية مذهلة من المال لوضع أكبر عدد من المساجد تحت سيطرتها (25).
ومع تأميم المساجد الخاصة، وضعت الحكومة أنظمة مشددة للتحكم بمن يخطب في المساجد المملوكة للدولة ومواضيع خطب الجمعة. وفي السبعينيات، أنشأت حكومة السادات شبكة من المكاتب المحلية في كل محافظات مصر، لاختيار أئمة لمساجد الدولة ومراقبة أفعالهم (26)؛ فأضحت، في كل منطقة، تقوم لجنة مكونة من أعضاء هم المديرون المحليون لكل من مؤسسة الأزهر ووزارة الأوقاف ووزارة الشؤون الاجتماعية باختيار شخص من بين عدد من المرشحين ليصبح إماما، حيث يجري فحص المرشحين للإمامة من قبل لجنة خاصة لاكتشاف أية ميول دينية أو سياسية متطرفة (27). أولئك الذين يحصلون على موافقة اللجنة يمنحون ترخيصا للوعظ ويعيّنون في مسجد خاص. وأصدر مجلس الشعب قانونا مماثلا يتطلب من الدعاة، في جميع المساجد الخاصة الباقية، الحصول على رخصة من وزارة الأوقاف.
ويملك المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية، وهو لجنة أخرى مكونة من وكيل وزارة الأوقاف ومدير المساجد ومدير الفتوى في الأزهر وعلماء كبار، سلطة تحديد الموضوعات التي تناقش في المساجد التي تسيطر عليها الدولة (28). ويعد المجلس الأعلى خطة فصلية (ربع سنوية) تتضمن الموضوعات (المقبولة) لخطب الجمعة، لتوزيعها على جميع المساجد الدولة. وتتم معاقبة الأئمة الذين ينحرفون عن تلك الموضوعات. وشرح محمد علي محجوب، وزير الأوقاف المصري الأسبق، هذه السياسة في مقابلة أجريت معه مؤخرا: (عندما نتلقى تقارير ونتأكد من أن الواعظ خالف النظام ويضر بالسلم والأمن الاجتماعي، نعتبره انتقل من الوعظ إلى العمل السياسي، وتجب إزالته) (29). وعندما سُئل محجوب عن الجهة التي تراقب هذه المساجد، أجاب بهدوء: (يتم إعداد تقرير يغطي أي تجاوزات في المساجد المصرية كل أسبوع. لا تقلق؛ المساجد تحت سيطرة الدولة). (30) كفاءة وفعالية مراقبة الدولة للمساجد، كما يزعم محجوب، تعدان من الأمور المشكوك فيها؛ ولكن ما هو واضح هو أن الحكومة تهدف إلى تنظيم عمل المساجد والتحكم فيها والهيمنة عليها، تماما، في جميع أنحاء مصر.
نتائج مبهرة لجهود الحكومة للسيطرة على المؤسسات الدينية
وخلاصة القول هي أن الحكومة المصرية بذلت جهودا استثنائية لتنظيم المؤسسات الدينية واستمالتها بغية استخدامها في خدمة الدولة، حيث قامت بالتالي:
1- نجحت في تحويل الأزهر تقريباً إلى ذراع للدولة
2- بدأت برنامجاً مكثفاً لتأميم المساجد الخاصة.
3- وضعت ضوابط صارمة على الذين يمكنهم الوعظ في المساجد العامة والخاصة.
لقد سعت الحكومة المصرية إلى السيطرة على المؤسسات الدينية؛ لكي تعزز نفوذها الديني بين الدول الإسلامية الأخرى، ولحماية الأمن الداخلي. وكانت الديناميكية المركزية، طوال هذه الفترة، هي الصراع المؤسسي؛ مع أنه، في بعض الأحيان، تعاون شيوخ الأزهر مع الحكومة لتحقيق استفادة معينة لرواق أو مذهب أو مصالح شخصية أضيق. وقاوم الأزهر معظم اعتداءات الحكومة على استقلاله المؤسسي؛ ولكنه كان - بالطبع - أضعف من الحكومة. ومع مرور الوقت، حصلت الحكومة على تنازلات كبيرة من الأزهر؛ من خلال عمليات طرد بعض الشيوخ المتشددين من الأزهر، والتحكم بميزانية الأزهر، والاستفادة من الخصومات الأيديولوجية والشخصية القديمة داخل الأزهر.
واكتسب الأزهر موارد مالية كبيرة لم تكن متوفرة له في السابق، بالرغم من خسارة استقلاله المؤسسي. وكان الوصول إلى خزائن الحكومة إنجازاً مؤسسياً مهماً للأزهر؛ وهو ما سمح له بتوسيع دوره في المجتمع المصري، ولكن زيادة سيطرة الحكومة ستؤدي إلى إضعاف وتلاشي أهم سمة للأزهر عبر القرون، أي تحديدا (شرعيته وصدقيته) لدى الشعب المصري.
أزمة شرعية الأزهر
وبروز الإسلام السياسي
وفي أعقاب إعادة تنظيم الأزهر وتلاعب الحكومة الواضح به، تعرضت الحكومة والأزهر معا لانتقادات متزايدة من شريحة عريضة من الشعب المصري (31). وكان الشيخ عبد الحميد كشك، وهو واعظ إسلامي شهير في مصر وكافة أنحاء الشرق الأوسط، من أشد منتقدي زيادة هيمنة الحكومة على الأزهر. وجادل كشك، الذي تخرج هو نفسه من الأزهر قبل إعادة تنظيمه عام 1961، بأن تلاعب الحكومة بالأزهر قد دمّر منزلة هذه المؤسسة الدينية وصدقيتها ولوّث سمعتها. ووفقاً لكشك، فقد (توقف الأزهر عن خدمة الإسلام، منذ إعادة تنظيمه عام 1961) (32). لقد شجب كشك، مثل كثير من الإسلامويين الآخرين، الحكومة لتلاعبها بالأزهر، ودعا الحكومة إلى إعادة الأزهر إلى وضع ما قبل عام 1961. وفي الوقت نفسه، ندد كشك بالأزهر لخضوعه لضغوط الحكومة وعمله كذراع لها.
وتوجد مواقف مماثلة مناهضة لهيمنة الحكومة على الأزهر في صحافة المعارضة. وتنشر جريدة (الشعب)، وهي صحيفة أسبوعية ذات ميول إسلاموية، كثيرا من المقالات التي تشجب تلاعب الحكومة بالمؤسسات الدينية وهيمنتها عليها. وكشف الكاتب أحمد عز الدين، في مقال بجريدة (الشعب)، عن تراجع احترام الأزهر لدى - على الأقل - شريحة مهمة من المجتمع المصري. وجادل الكاتب أنه، (منذ تأميم الأزهر في الستينيات، استخدمت الحكومات المتعاقبة الأزهر كأداة لخداع الرأي العام وجعله يعتقد أن الإسلام يزدهر في البلاد... حيث تحاول الحكومة، باستمرار، استغلال الأزهر للحصول على أكبر مكسب سياسي ممكن منه) (33)؛ وهو استنتاج يتفق مع ما توصل له الباحث الإسرائيلي الراحل باري روبن بأن (الارتباط بالحكومة، وحالات الفساد والفتاوى التي تبدو مخالفة للإسلام أدت إلى تآكل منزلة الأزهر واحترامه شعبيا) (34). وبالرغم من صعوبة التأكد من مقدار تآكل منزلة الأزهر وصدقيته بين الناس العاديين في المجتمع المصري؛ إلا أنه كان من الواضح أن التدخل الحكومي في شؤون الأزهر والتلاعب الواضح به واحتواءه بصورة كاملة (دنّس وشوّه) صدقية الأزهر ونزاهته، على الأقل لدى شريحة معتبرة من المجتمع المصري (أي الشريحة المتدينة).
- ترجمة وتعليق : حمد العيسى
Hamad.aleisa@gmail.com