وكما نرى، فإن كثيراً من المناصب التي تبوّأها الضبيب ذات علاقةٍ مباشرة بالبحث العلمي والخبرات المهنية التي يتطلَّبها تأليف « معجم مطبوعات التراث». إضافة إلى تمرُّسه في تأليف عددٍ وفير من الكتب الأخرى في تحقيق التراث، مثل تحقيقه لواحد من أقدم كتب الأمثال هو « كتاب الأمثال» لأبي فيد مؤرج بن عمر السدوسي ( ت 198ه). وتأليف كتابه» على مرافئ التراث: أبحاث ودراسات نقدية»، ودراسته قيد الطبع « حركة إحياء التراث في المملكة العربية السعودية» الذي يمثِّل هذا المعجم موضوع البحث، الموادَ الأولية التي بُنيت عليها تلك الدراسة التاريخية التحليلية النقدية. وللضبيب دراية في المطابع والمطبوعات السعودية ، كما يدلُّ عليها كتابه:» بواكير الطباعة والمطبوعات في بلاد الحرميْن الشريفيْن» ، وله خبرة في الفهرسة تتجلّى في كتابه « آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وله مؤلَّفات كثيرة غيرها تدلُّ على طول باعه في البحث العلمي، وقدرته على الفهرسة الرفيعة.
لكل هذه الإنجازات الباهرة والمؤلَّفات القيمة، نال الضبيب كثيراً من الجوائز في طليعتها ميدالية الاستحقاق من الدرجة الأولى من المملكة العربية السعودية.
2.2- ابن النديم والضبيب:
إذا كان ابن النديم رائد فهرسة الكتب العربية كما تجلّى ذلك في كتابه الذائع الصيت « الفهرست» ( 377هـ)، فإن الضبيب من أعظم المفهرسين العرب في عصرنا هذا، كما يتّضح ذلك من كتبه المتعلّقة بفهرسة المطبوعات. وخلال دراستي لسيرة الرجليْن وأعمالهما، وقفتُ على موافقاتٍ لفتت نظري إلى التشابه الكبير بينهما في المهنة، والهواية، والأسلوب، وطريقة الفهرسة، والأخلاق.
يلتقي الرجلان في عشقهما للكتب وهيامهما بالمعرفة، هوايةً ومهنةً. فقد كان ابن النديم كاتباً وباحثاً وورّاقاً في بغداد، يبيع الكتب ويشرف على نسخها وتصحيحها. ومهنة الوراقة في القرن الرابع الهجري بمثابة النشر في عصرنا. وأحد المناصب التي شغلها الضبيب هي عمادة شؤون المكتبات المكلفة بتنظيم المكتبات ونشر الكتب وترويج قراءتها.
وكان أسلوب ابن النديم فريداً في عصره. وقد وصف خصائص أسلوبه بنفسه في مقدِّمة كتابه « الفهرست « التي لم تتعدَ نصف صفحة، يقول فيها:
« ربِّ يسّر برحمتك، النفوسُ - أطال الله بقاءك - تشرإب إلى النتائج دون المقدمات، وترتاح إلى الغرض المقصود دون التطويل في العبارات؛ فلذلك اقتصرنا على هذه الكلمات...» (15).
فابن النديم يهديك نتائج بح ثه الشاق بعبارات قصيرة قليلة، بحيث يمكن وصف أسلوبه اليوم بالأسلوب البرقي. أما أسلوب الضبيب فيمكن وصفه بالأسلوب الرياضي الحاسوبي، الذي يمكن لأي مبرمج مبتدئ برمجته بسهولة. فعناصر فهرسته في هذا المعجم مثل معادلات رياضية وجيزة. ولمعرفتي الشخصية بالضبيب، أستطيع القول إن المبدأ النقدي الفرنسي « Le style c’est l’homme « ( الأسلوب هو الرجل) ينطبق عليه؛ فهو قليل الكلام طويل التفكير؛ وعندما يتكلم، فإنه يعبّر عن أفكار كبيرة بألفاظ قليلة.
وقد جاء ابن النديم في كتابه « الفهرست» بتصنيفٍ رائد قسّم فيه المعرفة الإنسانية على عشرة مجالات، وكل مجال مقسم على فروع، حتى ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن هذا التصنيف هو الأساس الذي استند إليه التصنيف العشري الذي وضعه المكتبي الأمريكي العبقري ميلفيل ديوي (1851 - 1931م) (16). وبفضل تصنيفه الرائد، جمع ابن النديم في فهرسته بين االفهرسة الموضوعية والفهرسة بحسب المؤلفين. وهذا ما فعله الضبيب كذلك في كتابه « معجم مطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية». فكلا الرجليْن صنَّف العلوم إلى عشرة أقسام ( مقالات لدى ابن النديم وأبواب لدى الضبيب)، وكل قسم يشتمل على أجزاء (فنون لدى ابن النديم وفصول لدى الضبيب).
وأخيراً، فإن كلا الرجليْن نبيلٌ يتحرّى الصدق والموضوعية فيما يدوّنه؛ ويميّز، بأمانة وحياد، بين ما رأى بنفسه وما لم يرَ.
3- مقدمة الكتاب:
3.1- محتويات المقدمة:
للمقدِّمة وظائف محدَّدة في تراثنا العربي بيَّنها المؤرِّخ المقريزي ( ت 845ه - 1442م) في مقدمة كتابه « الخطط المقريزية»، وحصرها في « الرؤوس الثمانية» وهي: 1- العنوان 2- اسم المؤلف 3- عدد أجزاء الكتاب ومحتوياته 4- الدافع 5- الغرض 6- المجال العلمي للكتاب 7- المستوى المعرفي المطلوب توافره في القارئ 8ـ- مصادر الكتاب. وما تزال هذه القضايا تُدرَج في المقدِّمات الجيدة في الأطروحات العلمية في الجامعات الغربية.
وقد أحاطت مقدِّمة الضبيب لكتابه « معجم مطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية» بأهم هذه القضايا، ونلخِّصها في ما يلي:
1) الأعمال الببليوغرافية التي سبقته:
ذكر الضبيب أهمها في تاريخ الثقافة العربية، قديماً وحديثاً، مثل «الفهرست» لابن النديم، و» كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة ( ت 1067ه - 1657م)، و « هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنِّفين» لإسماعيل باشا البغدادي (ت 1339ه - 1920م)، و»اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» لفان دايك ( القاهرة 1897م)، وكتاب يوسف سركيس « معجم المطبوعات العربية والمعربة» ( 1928م)، والقوائم الببليوغرافية التي نشرها المكتبي العراقي سركيس عواد في النصف الأول من القرن الميلادي العشرين، والتي جمعها جليل العطية ونشرها بعنوان « الذخائر الشرقية» (1999م)، وكتاب صلاح الدين المنجد « معجم المخطوطات المطبوعة» الذي غطّى السنوات من 1954 إلى 1980م، وأخيراً مشروع « المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع» الذي بدأ في إصداره معهد المخطوطات العربية سنة 1980م، وغيرها.
2) دوافع الضبيب لتأليف المعجم:
وفي الوقت الذي نوّهَ فيه الضبيب بهذه الأعمال الببليوغرافية التي رصدت كتب التراث المطبوعة في البلاد العربية، فإنه تشكّى من أنها ركّزت على المطبوعات الصادرة في القاهرة ودمشق وبغداد ولم تتطرق، إلا نادراً، إلى الكتب المطبوعة في المملكة العربية السعودية، على حين أن المملكة تأتي اليوم في المرتبة الثانية بعد مصر من حيث عدد المطبوعات، طبقاً لـ «لتقرير العربي الأول للتنمية الثقافية» (17).
ويبدو أن هذا الأمر هو الدافع الأساسي لإقدام الضبيب على تأليف معجمه، فهو يروم سدَّ النقص في الفهرسة العربية؛ فقد دعا المكتبيين في الأقطار العربية إلى رصد وتوثيق المطبوعات كلُّ في قطره لننتهي إلى فهرسٍ متكامل للمطبوعات العربية الحديثة.
3) مصادر المعجم ومراجعه:
ذكر الضبيب مصادره ومراجعه بأمانة، وهي كثيرة ومتنوعة مثل:
- المكتبات العمومية والخصوصية،
ـ المجلات العامة والمتخصصة،
ـ الكتب الببليوغرافية العربية والسعودية مثل: الببليوغرافية الوطنية السعودية، وكتب الأساتذة: الدكتور على جواد الطاهر، وشكري العناني، ويحيى الساعاتي، ومحمد خير رمضان يوسف، ويوسف إليان سركيس، وغيرهم.
ـ الكتب المتخصِّصة في الحديث النبوي الشريف، مثل كتب الأساتذة مصطفى عمر منلا، ومحي الدين عطية، وصلاح الديل حقي، ومحمد خير رمضان يوسف، وغيرهم.
- معارض الكتب، وأدلة الناشرين، وغيرها.
4) منهجية المعجم:
سنتناول منهجية المعجم في الفقرة القادمة التي تحمل رقم 4 بعنوان « التصنيف والفهرسة».
3.2- لائحة الرموز:
كل معجم بهذا الحجم يستخدم عدداً من الرموز توخياً للاقتصاد في اللغة وتقليصاً لحجم المطبوع. والرموز هي نوع من العلامات. والعلامة هي ظاهرة تواصلية منطوقة أو مرئية، مادية أو روحي ة، تدلّ على شيءٍ أو معنى؛ ولها أنواع عديدة كالرمز، والإشارة، والمختصر، والمختزل، وغيرها. ويسمَّى العِلم الذي يدرس العلامات، من حيث طبيعتها، وتصنيفها، والعلاقات القائمة بين العلامة وموضوعها ومُفسِّرها، بعلم العلامات أو السيميائيات(18) .
وقد استخدم المؤلِّف عدداً من الرموز في معجمه، ووضعَ لائحةً بها بعد المقدِّمة مباشرة، تيسيراً لمعرفة دلالاتها في المعجم. وحرص على اختيار الرموز التي استقرَّت دلالاتها في المطبوعات والمكتبات العربية مثل:
ج = جزء
ص = صفحة
ع = عدد ...إلخ.
والملاحظ أن هذه العلامات، شأنها شأن الألفاظ من كلماتٍ ومصطلحات، يتغيَّر معناها بحسب المجال المعرفي والسياق الذي ترد فيه. فمثلاً العلامة الأولى (ج) في هذا الفهرس أو غيره من الفهارس هي مختصر لكلمة (جزء)؛ ولكنها في الحوارات الصحفية مختصرٌ لكلمة ( جواب)، كما في (س) و (ج) أي: سؤال وجواب. ولكن (س) في علم الجبر هي رمزٌ يدل على ( المجهول) ، كما في معادلة : س + ص = 15 . والفرق بين الرمز والمختصر، هو أن الحرف المستخدَم في الرمز لا علاقة له بالكلمة التي يدل عليها، فـ (س) لا علاقة له بكلمة (مجهول)؛ في حين أن المختصر هو عادة الحرف الأول من الكلمة التي يدل عليها، فـ (س) هنا هو الحرف الأول من كلمة (سؤال).
ولهذا كثرت دلالات العلامات في كل مجال معرفي، وظهرت معاجم ورقية وإلكترونية للعلامات والرموز. ونظراً لتعدد دلالات الرمز الواحد، وتيسيراً للفهم للقارئ، وضع المؤلِّف الكريم لائحةً برموزه في أول المعجم.
5- التصنيف والفهرسة:
تقوم منهجية الأعمال الببليوغرافية على دعامتيْن: التصنيف والفهرسة (19).
4.1 - التصنيف:
4.1.1- تعريفه وأنواعه:
التصنيف، في الأساس، تقطيع الوجود المنعكس في الذهن البشري، من أشياء وأفكار، وتقسيمه إلى مكوِّناته حسب معيار من المعايير لإدراك العلاقات القائمة بينها. وهذه العلاقات إما وجودية أو منطقية. والتصنيف أساس تكوين المفاهيم ومنظوماتها، وهو يختلف من ثقافة إلى أخرى. ويُستخدَم التصنيف في جميع المجالات، علمية وأدبية، تيسيراً لدراستها.
أما في علم المكتبات، فإن التصنيف يعني نظاماً لتقسيم المواد المكتبية وترتيبها طبقاً لموضوعها، تسهيلاً لوصول القارئ إليها. وخير مثل على ذلك تصنيف ابن النديم للمعرفة الإنسانية في عصره إلى عشرة أصناف، وكل صنف يشتمل على فروع. وأصنافه هي: 1) اللغات والأديان 2) النحويون واللغويون 3) الأخبار والآداب والسير والأديان 4) الشعر والشعراء 5) الكلام والمتكلِّمون 6) الفقه والفقهاء والمحدِّثون 7) الفلسفة وعلوم الهندسة والطب وغيرهما 8) الأسمار والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة 9) المذاهب والاعتقادات 10) الكيميائيون والصنعويون.
وفي العصر الحديث، اشتهر تصنيف ديوي العشري الذي يصنِّف المعارف إلى عشرة أصناف وكل صنف يشتمل على عشرة فروع كذلك. وأصنافه هي: 0) المؤلَّفات العامة 1) الفلسفة 2) الديانات 3) العلوم الاجتماعية 4) اللغات 5) العلوم البحتة 6) العلوم التطبيقية 7) الفنون 8) الأدب 9) التاريخ والجغرافية والتراجم (19).
د. علي القاسمي - الرباط