فيلم المخرج خالد الصديق «بس يا بحر» عرض في ملتقى السينما في عمان في مؤسسة شومان الثقافية بمناسبة يوبيلها الفضي الذي قدمت المؤسسة طوال عمرها نحو ألف وأربعمائة فيلم من الأفلام العربية والعالمية المتميزة.
يتم اختيار فيلم «بس يا بحر» للمناسبة الثقافية من بين ثلاثة أفلام روائية هي الفيلم العراقي «بغداد خارج بغداد» إنتاج 2015 لكاتب هذه السطور والفيلم المغربي «ماجد» إنتاج 2010 لنسيم عباسي والفيلم الكويتي «بس يا بحر» من إنتاج 1972 لخالد الصديق وقد صنف الفيلم ضمن أهم عشرة أفلام عربية مهمة.
تدور أحداث فيلم «بس يا بحر» في دولة الكويت قبل ظهور النفط. حيث الحياة بسيطة وتبدو طيبة حنونة وهي كأي مجتمع تحمل في داخلها التناقضات ضمن بساطتها وفيها ما فيها من المشكلات الاجتماعية وصعوبات العيش. الفيلم هو أول فيلم روائي كويتي وأول تجربة روائية للمخرج المبدع خالد الصديق الذي أعقبه بفيلم ثانٍ مقتبس عن رواية الطيب صالح «عرس الزين». تدور قصة الفيلم وتدور أحداثه في البحر عن معاناة صيادي اللؤلؤ الذي كان بمنزلة الثروة النفطية قبل ظهورها في الكويت وما ينعكس من ظروف الغوص البدائية ومخاطرها في بحر الخليج وفي سفن بدائية وذاتية التصنيع يمخر بها صيادو اللؤلؤ أمواج البحر بحثًا عن اللؤلؤ في أعماقه.
يروي هذا الفيلم قصة شاب من عائلة كويتية فقيرة بات رب أسرتها عاجزًا عن العمل مما ألحقه به سمك القرش من أذى أثناء ما كان غواصًا شله إيذاء سمك القرش عن الحركة والعمل وبقي يقاوم صعوبات الحياة في وقت وقع فيه ابنه الشاب في خيال عشق صبية في الحي كان يراها من وراء شباك المنزل ويظل يحلم بها وينوي الاقتران بها زوجة، فيقرر الانضمام لصيادي اللؤلؤ كي يؤمن زواجه وحياته الاجتماعية مما جعل والده ينصحه ألا يثق بالبحر وما فيه، وعراك البحر ليس كما لوي الأذرع. هو عالم صاخب مدمر بما في جوفه من المصائب والهلاك. ولكن إصرار الابن جعل الأب يوافق لا سيما لا توجد كثير من الفرص للعمل وابنه يحلم بالزواج وبناء حياته الأسرية. يدخل الابن ضمن طاقم صيادي اللؤلؤ، وفيما كان هو في خضم البحر وافقت أسرة الفتاة الصغيرة من زواجها برجل كهل ثري، لم تكن هي راغبة بالاقتران به. وفي إحدى جولات جمع اللؤلؤ من جوف البحر يطبق حيوان بحري على كف الشاب الصياد ولم يتمكن من الفكاك منه والعودة للسفينة، ما أقلق أصدقاءه فنزل أحدهم في جوف البحر ليجده عالقًا بالحيوان الصدفي البحري ولم يكن بد من إنقاذه سوى قطع كفه بالمنجل وحمله إلى السفينة، حيث على سطحها لفظ أنفاسه الأخيرة وتمت طقوس تغسيله وتكفينه وإيداعه البحر وتم تنكيس علم السفينة، فيما كانت حبيبته الفتاة الصغيرة تئن تحت وطأة شبق الشيخ العجوز في مشهد احتفالي مؤثر وسط زغاريد النسوة والضرب على الدفوف وإطلاق أغاني الزفاف والزواج.
«تعود السفينة إلى الساحل والأب والأم ينتظران عودة ابنهما فيشاهدا علم السفينة منكسًا.. وكان الفقيد ابنهما.. بس يا بحر».
لم يكن فيلم «بس يا بحر» مجرد قصة اجتماعية تقليدية فعظمة الفيلم تكمن في صياغته وشكله وقيمه الجمالية وفي تجسيد مشاهد البحر والغوص وكذلك في كشف العلاقات الاجتماعية الملتبسة وتجسيد نقدها من خلال كشف حقائقها المخفية. فمشهد العرس مثلاً وزفة العروس وليلة الدخلة هي مشاهد مصنوعة بشكل متقن أخاذ، وهو أول التحدي الشجاع في كشف الواقع الاجتماعي الكويتي، ويأتي التحدي الثاني الذي يبدو أكثر شجاعة وهو التصوير تحت الماء وفي ظروف أعوام السبعينيات حيث لم نشهد فيلمًا عربيًا يتابع شخصياته تحت الماء، إِذ كان التصوير تحت الماء من المعجزات التي حققها الفيلم سواء كان الأمر يتعلق بالممثلين أو بالمصورين، وقد نجح التصوير والتنفيذ بشكل أكثر من متقن. كشف لنا الفيلم رحلات البحر في سفينة هي الأخرى تتحدى الريح والأمواج ليس فقط بخشبها البسيط وليس فقط بشراعها البسيط ولكنها تتحدى البحر بأغاني أبناء البحر وإيقاعات الأغاني ورقص البحارة التقليدي من واقع البحر بصيغته التعبيرية ما يشبه باليه شعبية الأداء عفوية التعبير عميقة الإحساس بالمكان والزمان على حد سواء. يأخذ البحر حيزًا كبيرًا من مسافة الفيلم نسبة إلى مشاهد القرية الساحلية وهو شأن ليس بالسهل أن يكشف لنا الفيلم شخصياته الدرامية ويعرفنا فيها عبر علاقاتها وصراعها على السفينة وفي خضم البحر الهائج المائج. رحلة وحكاية تشدنا بشوق ولا ملل وبدون بكائية سوى النهاية التي تصل الذروة وانعكاس الحدث وفقدان الابن وأحلامه بالحب والعاطفة فتجبرنا التراجيديا أن نقبل الميلودراما حد الفاجعة.
مضى على إنتاج الفيلم ومضى على إبداع الصديق خالد الصديق أكثر من أربعين عامًا والفيلم يحتفظ بنكهته البنيوية الكلاسيكية. وبجدارة فرض نفسه كواحد من أهم عشرة أفلام عربية فيما هو ليس الفيلم الأول لمخرجه فحسب، بل هو الفيلم الروائي الأول في تاريخ الكويت بمعنى لا توجد سابقة سينمائية أوجدت تقاليد عمل وخبرة ممثلين سينمائيين وخبرة مصورين ولا توجد في الكويت صناعة سينمائية تتيح إظهار الفيلم في مخابر نظامية وحتى غير نظامية. ما يمنح المخرج مواجهة تحديات كثيرة ينبغي الوقوف أمامها باندهاش وإعجاب شديدين.
عامل التقادم والقدم ترك بصماته المؤسفة على الفيلم ولا ذنب لخالد ولا للفيلم في ذلك، إِذ نحن في منطقتنا العربية وعالمنا الثالث والخامس والخامس عشر لا نرحم التاريخ ولا حتى الجغرافيا، فالفيلم طوال هذه السنوات مركون في مخازن ستوديو في بريطانيا وليس بحوزة الصديق خالد حتى نسخة منه إِذ توسل «البي بي سي» البريطانية الذين يحتفظون بنسخة من الفيلم أن «يعيروه» شريحة دي في دي كي يعرضها بيوبيلية شومان السينمائية. لا توجد أرشفة لوثائقنا الثابتة والمتحركة. لسنا معنيين بالتاريخ ولا بالذاكرة، وهذا ينسحب على كل بلدان المنطقة دونما استثناء وبشكل أكثر مأساة وتجسيدًا «بعد الربيع العربي المدلهم» حيث فقدنا الجغرافيا مثل ما فقدنا التاريخ والذاكرة. أقول: إن التقادم ترك بصماته السلبية على الفيلم، إِذ بدا لي الشراع وسماوات البحر في «تون» لوني واحد والفيلم هو بالأسود والأبيض فتكاد التدرجات اللونية أن تتلاشى من الفيلم ويسود التضاد «الكونتراس» الكثير من مشاهد الفيلم. جلست مع صديقي التاريخي خالد الصديق جلسة بمنزلة الوقفة المؤلمة الحميمة وسألته أن يرحم وليده الأول مهما كان الثمن أن نخضع الفيلم سوية لإعادة ترميمه وفق التقنية الحديثة حتى لا نخسره كما خسر الأب ابنه في لجة البحر وقسوته، فعالمنا العربي اليوم شبيه بعالم البحر وخفايا جوفه، لا ندري متى يطبق الحيوان البحري على أكفنا نحن - صيادي اللؤلؤ - أو الباحثين عنه داخل الحيوانات الصدفية. رجوته أن يعيد تلوين الفيلم «وبالأسود والأبيض» فقط أن يعيد إليه تدرجاته اللونية وأن يتألق بالصوت ويجسده وفق التقنيات الحديثة مهما كلف الأمر فإن فيلم «بس يا بحر» هو فيلم مهم ومشرف في تاريخ السينما العربية التي تتدهور نحو الهاوية. هذا ما يمكنه من الحصول على «فورمات» حديثة من الفيلم ويطبع أكثر من نسخة «دي سي بي» الشكل الجديد للفيلم السينمائي حتى يعيش عمرًا بعد أعمارنا. أقول: لولا مبادرة مؤسسة شومان ونضال الصديق السينمائي المبدع عدنان مدانات في الأردن في أن يجلب لنا وللجمهور هذه اللؤلؤة السينمائية «بس يا بحر» لنسيناه.
جلست مع الصديق خالد الصديق أشرح له الأمر واقتنع بكل تفاصيل حديثي معه وأن نعمل سوية على إنقاذ الفيلم حتى لا ينسى أو يتلف أو يضيع. وباشرنا الاتصالات مع الاستوديوهات فورًا وحالاً ونحن على تواصل عسى أن يتألق الفيلم أكثر وهو المتألق بين الأفلام العربية. لكن ما أحزنني ليس الفيلم وحده وما تعرض له من التلف بسبب التقادم، بل ثمة موقفان في حياة المخرج الكويتي خالد الصديق حزت وتحز في نفسي كثيرًا حد الإيذاء. الأول ما تعرض له مكتبه السينمائي ومعداته السينمائية من التدمير أثناء غزو الدكتاتور صدام حسين للكويت في الثاني من أغسطس 1990، إِذ كان مشروعه وحلمه ومعداته السينمائية قد استهدفت وتم تدميرها من قبل ذوي اختصاص وليس من قبل جنود بسطاء ساروا لحرب لا يريدونها. التدمير حصل من ذوي الاختصاص الذين رافقوا الغزو!!!! وهو شأن يدعو للخجل حد اللعنة.
طيب وأين خالد الصديق طوال هذه الأعوام قبل الغزو الدكتاتوري للكويت وبعد الغزو وتحرير الكويت؟ هنا يأتي السؤال الصعب والجواب الأصعب.
خالد الصديق هو مخرج كويتي وعربي وعالمي بامتياز.. لماذا توقف عن الإنتاج بعد فيلم «بس يا بحر» وفيلم «عرس الزين»؟ خالد الصديق موجود في كل أنحاء العالم من أمريكا حتى اليابان ومن سويسرا حتى مدغشقر ومن ألمانيا حتى كندا والمكسيك. يعود بين الفينة والأخرى إلى الكويت ويعمل سهرة عشاء لعدد من السينمائيين الشباب وعدد من الكتاب والمثقفين الكويتيين ويتحدثون ليلة واحدة عن هموم الثقافة والكويت ويقدم لشباب السينما نصحه «كيف يصنعون الأفلام؟» ويعود نحو اليابان تارة ونحو أمريكا ثانية.
طيب.. أين أنت سينمائيًا يا خالد.. ماذا تصنع في كل هذه البلدان.. هل طلقت عالم السينما الجميل؟
كلا، قال لي خالد الصديق: أنا لا أزال أعمل في السينما حبيبة عمري!
لكننا لم نسمع عن نشاطاتك السينمائية شيئًا!
ابتسم خالد الصديق ثم قهقه وكاد أن يسقط من كرسيه من شدة الضحك. قال لي: إنني أعمل أفلامًا سينمائية غير مقتنع بها.. هي متقنة الصنع كما عهدتني ولكنها أفلام كما تريدها الشركات التجارية.. أفلام عن مشروعات الشركات التجارية والمصانع وبضاعة الشركات وإنتاج المصانع، ولأنها ليست مثل حلمي الأول فإني أضع عليها اسمًا مستعارًا.. فأنت لا تقرأ اسمي على الأفلام.
صفن كثيرًا ونحن نتناول فطور الصباح في عمان.. وأردف قائلاً:
«لا كرامة لنبي في وطنه ...!»
- هولندا