قبل عامين قابلني أحد زملاء (البكالوريوس) القدامى في الكلية، وكان معروفاً آنذاك بقلة الفطنة وكثرة السرحان، وبعد أن سألته عن أحواله وما فعلتْ به الأيام، قال لي: ما شاء الله! إذن فقد حصلتَ على الدكتوراه؟ قلت له: نعم بفضل الله، فردَّ مُعقِّباً: وفّقك الله، و(عقبال) الماجستير! دون أن يكون على وجهه أيُّ دليلٍ على أنه (يمزح)، وحينها لم يكن أمامي إلا أن أردَّ بقولي: يا ربّ؛ الله يسمع منك، فقال ناصحاً: (شد) حيلك وستصل إليها بإذن الله! لا أدري إن كان لهذا الموقف علاقة بموضوع هذه المقالة، ولعله يكون من باب التشويق لما سأتحدث عنه، حيث سأتناول هماً من الهموم التي تحوم حول هذه الدرجة العلمية العالية التي سحرتْ كثيراً من الناس، فتراه يسعى جاهداً للحصول عليها، بحقٍّ أو دون وجه حق؛ لأنه يدرك أنها ستفتح له العديد من الأبواب المغلقة، وستسهم في زيادة دخله المادي وعلو مكانته الاجتماعية؛ لذا فهي تستحق - في رأيه- أن يبذل كلَّ سبيلٍ لتحقيقها، سواء أكان نظامياً أو غير ذلك! غير أنَّ حديثي هنا سيكون خاصاً بالأكاديميين، أولئك النخبة الذين يقضون أعمارهم في قاعات التدريس، ويجتهدون في تعليم الطلاب الجامعيين مستفيدين من علمهم الذي يفترض أنهم بذلوا في تحصيله الجهد والمال الزمن، وضحوا بأمور كثيرة حتى استحقوا هذا اللقب العلمي، ولهذا فالوطن ينتظر أن يتخرَّج على أيديهم الكفاءات التي تسد احتياجاته وتسهم في تطوره، فيتطلع إلى المهندس والطبيب والفقيه والمتخصص في العربية أو الإعلام أو التاريخ، أو غيرها من العلوم والتخصصات التي تخدم المجتمع وتساعد على رقي حضارته.
ومعلومٌ أنَّ (الأكاديمي) ينال درجة (الدكتوراه) بعد أن يُقدِّم جهداً علمياً قضى في إنجازه عدداً من السنوات، يشفع له بالحصول على هذه الدرجة، غير أنَّ الإشكال هنا أنّ بعض (الأكاديميين) يقع في فخ الانبهار بهذه الدرجة، والإعجاب الشديد بالوصول إليها، وينخدع ببريق نظرة المجتمع إليه، فيتوقف نهائياً عن الجهود البحثية، ويموت نشاطه العلمي، معتقداً أنه نال - بهذه الدرجة العلمية- المجد من أطرافه، وأنه ألم بكلِّ فنون تخصصه، وأضحى العالم الذي لا يُشقُّ له غبار، والمرجع الذي ينبغي أن تتوجَّه إليه جميع الأسئلة، حتى لو كان آخر عهده بالبحث العلمي قبل عشرين عاماً أو تزيد!
ولعلَّ الذي يجعل المجتمع يظنُّ بكلِّ (دكتور) جامعيٍّ هذا الظن (الحسن) أحد سببين: إما التوهم الزائف بأنَّ الحصول على هذه الدرجة في تخصُّصٍ ما، يلزم منه العلم بكلِّ المؤلفات فيه، والإحاطة بجميع أبوابه وفصوله وقضاياه، دون إدراكٍ بأنَّ هذه الدرجة ليست سوى مجرد ترقيةٍ أكاديمية، مقابل جهد هذا (الأكاديمي) في إنجاز رسالةٍ علميةٍ، في موضوعٍ معينٍ، يحمل عنواناً محدداً، لا يمثِّل سوى نقطةٍ في بحر العلم الذي تخصَّص فيه.
أما السبب الثاني فهو افتراض أنَّ هذا (الدكتور) ذو اطلاعٍ واسع، وأنَّ نشاطه العلمي وجهوده البحثية وقراءاته المتعددة لم تتوقَّف بمجرد حصوله على الدكتوراه، والتوقُّع بأنه واعٍ بأهمية أن يظلَّ الأستاذ الأكاديمي على صلةٍ وثيقةٍ ومستمرةٍ مع كلِّ جديدٍ في تخصصه، والحقُّ أنها افتراضاتٌ وتوقُّعاتٌ لا تصدق إلا على قليلٍ من (الأكاديميين) الذين يعون تماماً أنَّ (الدكتوراه) ليست نهاية المطاف، بل هي البداية الحقيقة للدخول في فضاءات البحث العلمي، ونقطة الانطلاق التي ينبغي أن ينطلق منها الباحث الجاد للإبحار في ذلك التخصص، ومحاولة الغوص في كلِّ عميقٍ فيه. إنه لمن المؤسف أن ترى (أكاديميين) قد شابتْ رؤوسهم ولحاهم، وهم لا يزالون على أول رتبةٍ لهم بعد نيل الدرجة (أستاذ مساعد)، ثم يظلُّ عليها إلى أن يموت، دون أن يجدِّد ذهنه، أو ينفض الغبار عن عقله الذي ظلَّ جامداً منذ أن قام عن كرسي المناقشة قبل عشرين وربما ثلاثين عاما، فأصبح يكرِّر معلوماتٍ وأفكاراً على طلابه قد عفا عليها الزمن، والمصيبة حين لا يعي المجتمع ذلك، فينظر إليه أفراده على أنه (الدكتور) صاحب الخبرة الطويلة نظراً إلى كثرة السنوات التي قضاها في التدريس، وهم لا يدركون أنها خبرة سنةٍ واحدةٍ فقط، قد جرى نسخها وتكرارها عشرات المرات، حتى أمست مهترئة تثير الشفقة.
إنَّ الأصل في عمل (الأكاديمي) أن يكون مستمراً غير منقطع، وأن يزيد إبداعه العلمي ونشاطه البحثي كلما علا في الدرجة، ولن يفعل ذلك ما لم يكن على قدرٍ كبيرٍ من الوعي بأهمية الرتبة العلمية التي وصل إليها، ومدركاً للطريقة التي ينظر المجتمع إليه من خلالها، ومستوعباً للدور الكبير الملقى على عاتقه في تقدُّم المجتمع ورقيه وتحضُّره، ذلك المجتمع الذي ينتظر منه الكثير، ويأمل منه أن يسهم من خلال علمه وبحثه ومؤلفاته ومحاضراته ومقالاته في رسم مشهد ٍ علميٍّ وثقافيٍّ جميل، يخدم دينه ووطنه وأمته.
- الرياض
Omar1401@gmail.com