(1)
واعلم أنّ طبيعة حركة الواقع قائمة على التعدّد والتطوّر، ولا يقدر فكرٌ على صناعة واقع أحادي (افتراضي) دون اللجوء إلى أدوات العنف الجسدي والنفسي، لأنّ الأحاديّة ضدّ طبيعة الإنسان ومحيطه وكونه، ولا يمكن إيجادها في واقعه، الذي هو انعكاس لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بمحيطه، ولا يمكن لهذه العلاقات إلاّ أنّ تكون متعدّدة ومتنوّعة، وجدل التعدّد والتنوّع يفضي إلى إنتاج تطوّر. واستناداً إلى هذا التعليل الطبيعي لحركة الواقع فإنّ أيّ حركة سياسيّة تحمل خطاباً إقصائيّاً -دينيّة كانت أم دنيويّة- فإنّها لا تقدر أن تتخلّى عن العنف بأيّ شكلٍ من أشكاله في سبيل تحقيق ما لا يمكن تحقّقه عبر مسارات الواقع واحتمالاته، لأنّ الواقع -في حالة السلم- لا يعتمد إقصاء ما هو قابل للوجود والحياة ولم تطرأ عليه موجبات الفناء من داخله؛ وشيءٌ من هذا أصلٌ في حتميّة نهايات الاستبداد، الذي لم يتمكّن عبر التاريخ من النجاح في تقديم نموذج سياسي إنساني تكتب له الاستمراريّة رغم عنفه لأجل البقاء إذا لم يغيّر من مساره ويتدارك حركة الواقع ومتطلّبات الاعتراف بالتعدّد.
(2)
التطرّفُ بطبيعته إقصائيّ، بوصفه جزءاً يريد أن يُقصي المتبقّي من الكلّ-المُكمّل، وبوصفه طرفاً يريد أن يُقصي طرفاً، لا يكون إلاّ معه؛ وعلى هذا التصوّر فإنّ الوعي المجبول والمدرّب على الثنائيّة والضدّية متورّطٌ بالإقصاء بطبيعته، وهو في سبيل هذا الإقصاء مضطّرٌ لممارسة العنف بأشكال مختلفة.
فأنت في تصوّراتك للحياة إذا كانت قائمة على الثنائيات فأنتَ متورّطٌ بالتطرّف في قراراتك وأفعالك لا محالة، وأزمة الفكر الديني أنه أقعد التصوّر في كلّ أمور الحياة على منطق الثنائيّة والضدّية، على (هذا أو ذاك) (معنا أو ضدنا)، (صواب وخطأ)، (حلال أو حرام)، (باطل أو حقٌّ)، (خيرٌ أو شرٌّ) جدل ثنائي يكاد لا ينتهي ويحرق الأخضر واليابس في وعي الإنسان وعلاقته بالتعدد وقبول التعدّد.
فالتطرّفٌ موجودٌ من أوّل النهار حتّى آخره، والعنفُ لا يغيب عنه كذلك؛ فالعنفُ ليس محصوراً على الدم فحسب، فأشكاله لا تنتهي، وهو ليس مقصوراً على جانب دون آخر من جوانب الحياة، فقد يكون دموياً، وقد يكون نفسياً، أو اقتصادياً، وغير ذلك من أشكال التقسيم التي تُفضي إلى قهر نفسي حاد، وتعمل عملها في انفجار السلم الأهلي تحت أيّ اختلال لموازين القوى الداخليّة. وأنت إذ تتأمّل ما جاء في المتن القرآني (وإذا الموؤدةُ سُئلتْ بأيّ ذنب قُتلت) فلتتساءل: على من وقع السؤال؟ ولا تستسلم للتفسير التقليدي بحصر دلالة الموؤدة في المواليد الإناث، إنما خذها على سعةٍ فوق ذاك المعنى، دون أن نسقطه أو نلغيه، وتأمل دلالة (النفس المظلومة)، فسؤالُ المتن موجّه لنفسٍ وُئدتْ ظُلماً، قُتلت غيلةً، ولم تُمنح حقّ الدفاع عن نفسها، ...
فالوأد والعنف والتطرّف حالات لا تخلو من وقائع يومياتنا، ثمّ لا تجد سبيلاً لتفكيكها: هل كُنّا ننتظرُ هذا النهرُ الجاري دماءً من المحيط إلى الخليج؟ هل كنّا ننتظر أن يقتل الابن أباه والأخ أخاه؟
ماذا يقال عن مدرسة تعليميّة (وأهليّة أيضاً) تحشرُ المعلمّة تلميذات الصف الرابع وتعرضن عليهن في شاشة كبيرة في مسرح المدرسة مشهداً لحريق في غابة، ثم ترفع صوت العرض عند اقتراب التصوير من صوت الخشب والشجر وهو يحترق، ثمّ تخبرهنّ: «هذا أهون من نار جهنم على وجوهكن إذا كشفتن وجوهكن!!!!!!» هل في هذا العنف شكّ؟
ماذا يقال عن مدرسة يحترق فيها المعلمات والطالبات ويرفض حارس المدرسة فتح الباب أمام المسعفين من الآباء والسائقين؟
ماذا عن أبٍ يرفض لمسعفٍ رجل أن ينقذ ابنته في البحر بينما تغرق وتحتضر؟
ماذا عن كثير من العنف يمارس تحت أسباب إقصائيّة وغير موضوعيّة في البيوت والحارات والأسواق والمدارس والجامعات؟ فليس العنف الذي يخرج به هؤلاء التائهون في عقولهم ويجولون العالم ليقتلون أشخاصاً ليس بينهم وبينهم أدنى معرفة أو أدنى ثأر؟ لقد وصل العنف إلى درجة من الانتشار أعمى قدرتنا على رؤيته في كلّ تصرّفاتنا اليوميّة!!! هل في هذا مبالغة: انظر أفعالنا من أوّل النهار حتّى آخره؟ انظر كيف ننظر لأنفسنا ونتعامل بعنف مع أنفسنا والآخر؟
(3)
هل نحن متطرّفون؟ هل طبيعة في ثقافتنا وتشريعاتنا وأدبياتنا أنها تؤدي بحاملها إلى التطرّف؟ ثم ما هو التطرّف؟ وما العلاقة الارتباطيّة بين التطرّف والإقصاء والعنف؟
توجد في كلّ ثقافة تصوّرات تؤدي إلى سلوك إيجابي داخل مجتمعها وخارجه مع مجتمعات دول الجوار، كما أن هناك في المقابل تصوّرات أخرى في هذه الثقافة نفسها تؤدي إلى سلوك سلبي داخل مجتمعها وخارجه، كهدف أو خطرٍ يتوجّب إزالته واعتباره مصدراً للشرّ أمام خير -لا مثيل له- ولا يمثّله إلا أهل هذه الثقافة المتمسّكين بتصوراتهم؛ وهكذا تصوّر إقصائي بطبيعته لا يخلو من أيّ تصوّر ديني-سياسي لدى جميع ا لطوائف في جميع الأديان، ذلك أنّ التقسيم الإقصائي هو طبيعة متلازمة مع هذا الفكر الديني- السياسي في سياقه المؤسّساتي، وليس في سياقه التعبّدي الفردي.
وبينما تسعى الحضارة الإنسانية زمناً بعد آخر في تطوير الثقافات الخاصة بالشعوب وتقليص خصوصياتها التي تؤدي بها إلى التصادم مع الآخر تحت تأثيرات ما تحمله الثقافة من تطرفٍ، واعتمادها كذريعة لصراع المصالح والملكيّات، فطبيعة الخصوصية -تحديداً- في تركيب الثقافة قائم على مبدأ الإقصاء (فعلّة الخصوصية نشأت في ظروف صراع الملكية، وبالتالي، كان الإقصاء هو الموجد والمبرّر لنشوء الخصوصية: وقد فصّلت ذلك في مقالات سابقة وفي كتاب: ما بعد الثقافة).
هل نستطيع أن نستبعد التطرف من الثقافة؟ فماذا تعني الخصوصية؟ أليس الاستثناء سمة الخصوصية والتطرف معاً: (أنا المستثنى.. أنا الخاص.. أنا المميز... أنا الخير...أنا الوريث...)! ونحن هنا في موضوع نقد الذات في غياب الموضوعية، ونقد الذات في ثقافة التطرف لن نقف عند الإيجابيات التي نحملها إلا بقدر ما تفيد الموضوع، كالتأكيد على أنّ هذه التصورات والسلوكيات الإيجابية التي نحملها لا تخصّنا بمفردنا كاستثناءٍ يجعلنا مختلفين عن العالم، فيكون هذا التصور بحدّ ذاته تطرفاً.
وتمثيلاً: لا أعلم ما الذي يفتن الناس بالعبارة التي قالها الشيخ محمد عبده عند زيارته أوروبا: (رأيت إسلاماً ولم أر مسلمين) وبات بعده الكثير من الناس يردّدونها حتّى بعض الدعاة المعاصرين ومن في حكمهم ممّن يستهويهم التسويق إلى كون ثقافتنا تحديداً حاملة لجميع وجوه الخير والجمال بفرادة دون باقي الثقافات، فهذا يذهب للغرب ويدّعي أنّ حضارتهم وأخلاقهم إسلاميّة، وذاك يسوّق في رحلته إلى اليابان أنّ كلّ إيجابياتها أصلها أخلاق إسلاميّة، والأصل أنّ كلاهما ومن بينهما ليس الموضوعيّة بشيءٍ، فما رآه الشيخ كان ثقافة الغرب وحضارتهم وأخلاقهم، وما رآه الباحث في اليابان كان أخلاق اليابانيين وثقافاتهم البوذيّة والمدنيّة وغيرها وليس للإسلام علاقة بالأمر، إنّه نوع من الوهم المرعب أن تذهب إلى دول الحضارة وتسرق أخلاقها وتنسبها إليك.
وهذا جزءٌ من مشكلاتنا المتطرّفة والإقصائيّة: أننا نمدح أنفسنا عبر ما هو موجود عند الآخرين، ونمدح أنفسنا عبر الإساءة للآخرين. ما الذي لديك أيّها المفتون بعبارة: (رأيت إسلاماً في الغرب ولم أر مسلمين)؟ تأمّل ماذا فعلت الآن؟ لقد نسبت إليك إيجابيات الحضارة الغربيّة التي ترفضها وتحاربها وتكفّرها؟ حسناً: وماذا لديك؟
- جدة