(33- شهادة العاديّات المِصْريَّة - 3)
في المقال الماضي طرحتُ فرضيَّة ترجِّح أن الفرعون الذي خرج على عهده (موسى) هو الفرعون السابع من الأسرة الثامنة عشرة (أمنحُتِب الثاني، الذي حكمَ في الفترة 1427- 1401ق.م). وأن أباه (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م) هو فرعون التسخير. وذلك من منطلق مؤشِّرات الوثائق والنصوص. وبناءً على ذلك كلِّه يمكن استنتاج الآتي:
1- كانت الملِكَة (حتشبسوت، -1458ق.م)- وهي خامسة الفراعنة من عصر الأسرة الثامنة عشرة - هي المرأة التي تربَّى موسى في كنفها. ويبدو أنها امرأة فرعون المذكورة في القرآن باسم (آسية).
2- كان الفرعون (تحوت موسى الثاني، -1479ق.م)، زوج حتشبسوت، هو الفرعون الذي عاش موسى صِباه في عهده. وكان حُكم هذا الفرعون قصيرًا (1493- 1479ق.م)، فقد اعتلّ فور اعتلائه العرش، ومات في الثلاثين من العمر. ودلَّ فحص موميائه على احتمال أنه كان مصابًا ببعض القروح الجِلديَّة، وربّما بالجُذام.(1) ولم يكن لهذا الفرعون حين تولِّيه العرش ابنٌ يرثه العرش؛ ولذلك كانت حتشبسوت هي المَلِكة الفعليَّة في عهده ومن بعده، حتى توفّيت. وربما صحَّ أن صدى هذا يظهر في قول امرأة فرعون عن موسى: «قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.»(2) الدالَّة على أن فرعون المذكور لم يكن له ولد حينئذٍ، فكان تبنِّي موسى مسوَّغًا لهذا السبب. وهذا ما ينطبق على تحوت موسى الثاني، دون سِواه.
3- إن في اسم «موسى» نفسه مؤشِّرًا على الفترة التي عاش فيها. فهو قد ولد في عصر الفرعون تحوت موسى الثاني، وعاش صِباه في بلاطه، تحت رعاية زوج هذا الفرعون حتشبسوت. وكان (تحوت موسى الثالث) هو ابن تحوت موسى الثاني، وابن (إست) ضرَّة حتشبسوت. وواضح من هذا أن (موسى) وتحوت موسى الثالث تِرْبان، نشآ معًا في قصرٍ واحد، الأوّل ابن حتشبسوت بالتبنِّي والثاني ابن ضرّتها إست. ومن هنا فقد أُطلق على موسى هذا الاسم بالنظر إلى أنه الاسم العائلي الملكي الرسمي المتوارث في هذه الأسرة التي عاش فيها، فهو اسم الجَدّ (تحوت موسى الأوّل)، والأب بالتبنِّي تحوت موسى الثاني، والأخ بالنشأة تحوت موسى الثالث، وصولًا إلى حفيد هذه الأسرة (تحوت موسى الرابع)، الذي حكمَ بعد خروج موسى بقومه من (مِصْر).
4- فرَّ موسى من مِصْر إلى (مَدْيَن) حين تولَّى المُلْكَ (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م)، عدوّ حتشبسوت، وابن ضرّتها إست(3)، ولعلّه إلى ذلك خصيم صِباه. وذلك بسبب قتل موسى رجلًا مِصْريًّا، كما تُخبرنا التوراة ويُخبرنا القرآن. وتحوت موسى الثالث هو الفرعون الإمبراطور، الذي يُعدّ أعظم فراعنة مصر، والمَلِك التوسّعي والمحارب الأسطوري الشهير. وكان عهد هذا الفرعون عهد اضطهاد العبرانيِّين وتسخيرهم في الأعمال، كما مرّ في وثيقةٍ برديَّةٍ، أشرنا إليها في المقال السابق. ويظهر على موميائه مثلما ظهر على مومياء والده من القروح الجِلديَّة، وربما كان مصابًا بالجُذام.(4)
5- عاد موسى بعد وفاة تحوت موسى الثالث، أي في عام 1425ق.م أو بُعيده، إثْرَ تَولِّي (أمنحُتِب الثاني). وهذا الفرعون الجبّار هو مخضِع الثائرين وطالبي الحريَّة، وهو ذابح الملوك للآلهة بيده.(5) الذي قاد الحملات القاسية على (فلسطين) و(سوريّة)، والذي اقتاد 3600 مساجينَ من أولئك الهابيرو (العبرانيِّين) من أرض كنعان إلى مِصْر.(6) وقد لوحظ على مومياء هذا الفرعون ما لوحظ على مومياء أبيه وجَدّه من القروح الجِلديَّة، وربّما الجُذام.(7) وبدأت مطالبات موسى فرعونَ بالخروج من مِصْر، بعد عودته من (مَدْيَن).(8) وفي عهد أمنحُتِب الثاني خرج العبرانيُّون من مِصْر. وذكرت التوراة أن عُمْرَ موسى إذ ذاك كان ثمانين سنة.(9) وهذا متَّفق تقريبًا مع المدَّة من عهد (تحوت موسى الثاني، -1479ق.م)، الذي وُلد فيه موسى، إلى عهد (أمنحُتِب الثاني، -1401ق.م)، الذي خرج فيه. ولا يتعارض هذا مع الإيمان بحادثة الغَرَق لفرعون لدى من يؤمن بها؛ لأن فرعون- حسب القرآن- قد نجا ببدنه. ولا يتعارض كذلك مع العثور على مومياء هذا الفرعون محنَّطة في مقابر الفراعنة؛ لأنه من المتصوَّر أن قومه قد حنَّطوه بعد نجاته ودفنوه في وادي الملوك، كغيره من ملوكهم. ولكن هل نصَّ القرآن على غَرَق فرعون أصلًا؟ كلّا! وإنما التفاسير التي تتَّخذ القصص التوراتي مرجعًا هي التي فرضت هذا الفهم على النصّ، ورسَّخت هذا الاستنتاج ترسيخًا، حتى صار كأنه من المسلَّمات البدهيَّة.(10) ثم تعال ابحث عن مومياء الفرعون الغريق، كما يُحاول بعض المعاصرين! إن القرآن دقيق في تعبيره هاهنا، فهو لا ينصّ على غَرَق فرعون مطلقًا، وإنما على أنه «أدرك فرعون الغَرَق»، ثمَّ نجا. ذلك أنها جاءت الإشارة إجمالًا إلى «غَرَق آل فرعون»، أو «غَرَق الآخَرين»، أو أنه «غَشِيَهُم مِنَ اليَمِّ ما غَشِيَهُم»(11) ثمَّ جاء التفصيل في (سورة يونس)(12): «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا. حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: «آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.» «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافلُونَ.» فهل نجا فرعون قبل الغَرَق، أم بعده؟ هل النجاة المشار إليها هي من الغَرَق، أم من تَلَف البَدَن في البحر؟ ذلك غير منصوص عليه. ومن هنا، فإن القرآن إنما ينصّ على أنه أدرك فرعون الغَرَق، فنجا. فمن المحتمل، إذن، أنه لم يغرق غَرَقَ الموت، أو لم يمُت مباشرة. أمَّا نجاته، فكانت «آية لمن خلفه من المعاصرين له»، كما تشير الآية القرآنيّة، لا لغيرهم بالضرورة، كما يتكلّف من يبحثون اليوم عن مومياء لفرعون غريق. كما أن قِصّة الغَرَق لا تنصّ على أن الفراعنة قد انقرضوا، أو أن مُلكهم قد زال، أو حتى ضعف من بعد تلك الحادثة. وكذا فإن خروج موسى ومن معه لا يقتضي في المقابل أنه لم يبق بعض العبرانيِّين في مِصْر. ولا يقتضي أيضًا أنْ قد انتهت علاقة مِصْر بالعبرانيِّين، أو أن العثور على إشارات إلى وجودهم في مِصْر بعد عهد أمنحُتِب الثاني- وأنهم كانوا يعملون في السُّخرة- دالٌّ على أن ذلك كان قبل الخروج من مِصْر. بل لا يعني وجود هؤلاء الكادحين من العبرانيّين في الحِرَف أنهم مقهورون على ذلك في كل حال، بل قد يكونون مجرّد حرفيّين مَهَرَة، متكسِّبين. هذا ولقد اتصل نفوذ مِصْر في فلسطين وسورية، واستمرّ الصراع مع الإسرائيليّين والكنعانيّين، بين مَدٍّ وجَزْر خلال العهود اللاحقة. وإنما يمكن القول إن حادثة الخروج قد مثّلت تمرّدًا صارخًا على السلطة المِصْريَّة، وخلاصًا من القهر الذي مارسته على العبرانيِّين، أَفْلَتَ بسببه المؤمنون برسالة موسى والناقمون على فرعون، من عبرانيِّين وغير عبرانيِّين من قبضة فرعون، خارجين شَمالًا جهة أرض كنعان (فلسطين)، وبقي في مِصْر من بقي من بني جِلدتهم أو دِينهم. ليقضي أولئك الخارجون في التِّيه عمرًا، انقضى بموت موسى وهارون(13)، قبل أن يستطيعوا دخول ما عدّوه أرض ميعادهم.
** ** **
(1) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 268 .
(2) سورة القَصص، الآية 9 .
(3) يبدو من هذا أن (تحوت موسى الثالث) حين وفاة أبيه لم يكن في سنّ تؤهِّله للحكم، فاستمرّت (حتشبسوت) مَلِكةً، ثمَّ خلَفها في الحُكم.
(4) انظر: بوكاي، 269 .
(5) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 80 .
(6) انظر: بوكاي، 265. (7) انظر: بوكاي، 268- 269 .
(8) تختلف الروايات في سبب خروج (بني إسرائيل) من (مِصْر)، أكان طردًا، أم تمرّدًا؟ فعلى حين تصوِّر «التوراة» الأمر على أنه كان مطلبًا لبني إسرائيل، واجهه فرعون بالممانعة، وأن خروجهم كان خلاصًا تاريخيًّا، ما كادوا يصدِّقون تحقُّقه، فإنها تستعمل مصطلح «الطَّرْد» أيضًا، في مثل: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «الآنَ تَنْظُرُ مَا أَنَا أَفْعَلُ بِفِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ يُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَوِيَّةٍ يَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ.» (سِفر الخروج، 6: 1، وانظر: 11: 1). وينقل المؤرِّخ اليهودي (يوسيفُس) عن المؤرِّخ المِصْري (مانيثون، القرن 3ق.م)، أن خروجهم كان برغبة المِصْريِّين في نفيهم اتقاءً لوباء الجُذام الذي أصابهم. (انظر: ديورانت، ج2 م1: 326). وكذا يُعَنْوِن بعض الباحثين المحدَثين هذا الحدث بـ»طرد بني إسرائيل من مِصْر». (انظر مثلًا: السقّاف، أبكار، (1997)، إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة، (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 115). ونحن نميل إلى أنه كان خروجًا بالفعل، لا طردًا، بما تعنيه هذه الكلمة. ذلك أنه لو سُلِّم جدلًا بوقوع الوباء، فلا يُتصوَّر انحصاره فيهم، وهم مخالطون للشعب المِصْري، ومن ثمَّ فلا فائدة صحيَّة من نفيهم. ولقد بدت علامات الأوبئة الجِلديَّة في تلك الحقبة على المِصْريِّين أنفسهم، كما شهدت على ذلك مومياوات الفراعنة. ثُمَّ لم يكن من مصلحة المِصْريِّين الاقتصاديَّة طردهم، وهم الأيدي العاملة الرخيصة والمستعبدة في أعمال البناء والفلاحة والصناعة. ولذلك سنرى بقاء طوائف منهم في مِصْر حتى بعد تاريخ الخروج. و»التوراة» تُحِلُّ هذا الإشكال في موضع آخر (الخروج، الإصحاحات 12- 14) ذاكرةً أن ا لخروج كان مطلبًا لبني إسرائيل، قوبل بالمنع من فرعون، فلمَّا وقعت بالمصْريِّن البلايا، طردَ فرعونُ موسى وقومه، ثُمَّ نَدِم، وتذمَّر الشعبُ إليه لفقدانهم الخَدَمَ منهم، فذهب فرعون وجنوده في طلبهم لإرجاعهم، فأدركوهم على البحر.
(9) انظر: سِفر الخروج، 7: 7 .
(10) يذهب أستاذهم (الطبري) ذلك المذهب المتزيِّد على النصّ من وارد ما ينظر إليه في التوراة، ديدنه في تفسيره وتاريخه معًا، ممَّا سبق تمثيلنا عليه. فيزعم أن «في الكلام متروكًا»! وليتهم تركوا ما تُرِك، لكان استقام النصّ مع العقل والعِلْم والتاريخ! ولكن هيهات، لا بُدَّ من إضفاء حكاياتهم ومرويّاتهم الإسرائيليَّة. وانظر مرجع الطبري التوراتي في الغَرَق، وأنه «رَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ»، في (سِفر الخروج، 14: 28). والطبري إلى ذلك مُصِرٌّ على أنه لولا (جبريل) بالمرصاد لكان الله غفر لفرعون؛ فقد كان جبريل يحشو فم فرعون بالطين، حتى لا «يصل كلامه إلى الربّ»، فتُدركه الرحمة! إلى غير هذا من التصوّرات الساذجة والخيالات البدائيّة، والغريبة في حقّ الله وملائكته. عقول محشوّة بالأساطير، يُتطفّل بها حتى على القرآن، تحت مظلّة: «في الكلام متروك».
(11) انظر: سورة البقرة، الآية 50؛ سورة الأنفال، الآية 54؛ سورة الشعراء، الآية 66؛ سورة طه، الآية 78 .
(12) سورة يونس، 90- 92 .
(13) في بعض الأقوال إن (موسى) قُتِل غيلةً. (انظر: فرويد، سيجموند، (1986)، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 49).
- الرياض
p.alfaify@gmail.com *** http://khayma.com/faify