اعتقاد الإنسان هو الذي يصنع فلسفة القديس والبطل، أما كيف يُصنع اعتقاد الإنسان فهناك ثلاثة مصادر لصناعة اعتقاد الإنسان هي؛ الدين والمعرفة»العلم والثقافة والفن» والخبرة.
والمعرفة هي كل «معلومة تُقدم للفرد من خلال وسيط».
والخبرة نكوّنها غالباً من ما نسمعه ونشاهده ونلاحظه ونستنتجه، وبذلك فالخبرة هي مجموعة من الارتباطات المنطقية تتكون وفق الواحد المكرر، لأن التكرار هو مُثبت القيمة أو الفكرة أو الإحالة أو التصور.
وبهذا الرأي يعني أن كل فرد له مكونه المعرفي الخاص»أفقه الثقافي» وفق استيعابه لمصدر المعرفة الحسية من حيث الكيفية والكمية وما يُحصّله ذلك الاستيعاب من اعتقاد.
وتلك المصادر هي التي تتحكم في مسار مواقف الإنسان نحو الأشياء، إثباتاً أو نفياً، رفضاً أو قبولاً، صدقاً أو كذباً.
ووظيفة المواقف هنا أنها تُنظّم أفق علاقته الثقافية بكل ما هو حسي، ولذلك فالاعتقاد لا يُمكن أن يتحوّل إلى عقيدة «أيديولوجية» إلا عبر تحويله الميتافيزيقي إلى علاقة حيوية عبر تمثيل أو مجموعة من التمثيلات التي تصنع واقعاً أو يُمكن أن تصنع واقعاً.
لأن التمثيل باعتباره آلية «نمذّجة» هو الذي يصنع فاعلية التصديق والتيقّن.
ولا يُمكن إنكار إمكانية توفر لاحتيال أو تزييف أو استغلال وجداني لترويج قصدية أيديولوجية لفاعل أو مجموعة الفواعل المتحكمة في تحويله الميتافيزيقي إلى تمثيلي، وهو ما يعني استعمار لمعرفة الفرد من خلال توجيه قصدي لصناعة أفق التصور الثقافي الخاص بالفرد أو الجماعة في ضوء ما يتوافق مع أغراض فاعل التحويل، ومن خلال منظومة التحكم لذلك الأفق؛ الإشارة والرمز والكلمة والصورة؛ لإيصال الفرد إلى النتيجة وردة الفعل التي تخدم أغراض فاعل القصديّة.
وبذلك فنحن نقف أمام مسألة «صناعة الاعتقاد».
كل فرد قادر على تشكيل اعتقاده الخاص»من خلال مصادر الاعتقاد التي ذكرتها سابقاً، لكن ما مدى قوة الاعتقاد الخاصة بالفرد؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن أن يتحول الاعتقاد الخاص بالفرد إلى يقين؟
غالباً ما يرتبط اليقين «بصيرورتي الكمي والكيفي»؛لأن الصيرورة «دليل جوهر» و»قاطع إثبات»
وتلك الصيرورة في مستوييها الكمي والكيفي لا يمكن أن تتحقق إلا عبر» اتفاق الجماعة»؛ باعتبار أن «المجموع لا يُخطئ في الحكم» وأن «الخطأ والنقص غير جاذبين للمجموع» وبذلك يُصبح الجاذب للجماعة كل حق وكمال، ولذا فإن «المجموع لا يجتمع على خطأ الحكم».
ولذا فالمدونة الفقهية الإسلامية تُحذّر دوما من تمرد الفرد على شرعية الجماعة باعتبار أن «الجماعة لا تجتمع على باطل ولا ضلالة» وتسمي المتمرد على شرعية الجماعة»بالخوارج»، وهو ما يمنح الجماعة صلاحية تسكين سُلّم الصواب والخطاء.
والأمر لا يختلف في الثقافة الغربية؛ فالديمقراطية هي اختيار أكبر عدد من الناس أمر ما أو شخصية ما وحاصل ذلك الاختيار هو الذي يشكل شرعية ما تمّ اختياره، ولو تمردت أقلية على حاصل اختيار الناس فهذا التمرد لن يُلغي شرعيّة ما تم اختياره، وسوف تتهم تلك الأقلية في حالة استخدامها «الاعتراض العنيف» بالانقلاب على شرعية الناس، وهو ما يعني تعرضها لعقوبة، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام تدوير لمصطلح «الخوارج».
إذن اتفاق جماعة على قبول أمر مخصوص فيه إثبات لشرعيته، وهو اتفاق الجماعة على رفض أمر مخصوص فيه نزع لشرعيته.
وفي ضوء ذلك تكونت نظرية «العقد الاجتماعي» التي تذهب أن الفردية كمصلحة ذاتية هي مُهلكة للجماعة، ولذا لا بد من الاتفاق الجمعي على مسلّمات تعايشية ثابتة تسيّرها قوانين من خلال سلطة حاكمة.
أما كيف يتحقق الاتفاق بين الجماعة؟
يتحقق عبر طريقتين؛ الطريقة الأولى «الاتفاق على ما يُدّعم الأمن المشترك، الاقتصاد المشترك، العقائد المشتركة، الأهداف المشتركة، المصالح المشتركة.»
والطريقة الثانية «الاتفاق على كل ما يُهدد الأمن المشترك، الاقتصاد المشترك، العقائد المشتركة، الأهداف المشتركة، المصالح المشتركة.»
وقد يمتد طول ذلك الاتفاق بطرقتيه ليصبح «تحالفا بين دولتين أو مجموع دول».
ولكن ألا يمكن التحكم في مسار وخيارات الجماعة حتى تُشكّل اتفاقاً خاصاً يخدم أيديولوجية قصدية؟
بالطبع يُمكن ذلك من خلال ماكينتي الثقافة والإعلام.
هل كل فرد يحقق استنتاجاً مختلفاً عن الفرد الآخر للمعروض من خلال الصورة الواحدة أو للرمز الواحد أو الإشارة الواحدة؟
ومسألة أحادية الاستنتاج لمختلف جماهير الجماعة تعتمد على أمرين؛
الأمر الأول؛ ذاكرة التنشئة الاجتماعية للأفراد التي تتشكّل من خلال البيت والتعليم والإعلام والفنون والثقافة، فمصادر تشكيل التنشئة الاجتماعية أو «الاتفاق الجمعي» هي التي تُكوّن أحكامنا نحو الأشياء.
والأمر الثاني؛ صناعة ذاكرة الرأي العام، وهذه الصناعة تعتمد في إنتاج تأثيرها على أحدث نظريات الاتصال والتأثير مثل نظريات التلقي ونظريات الخطاب ونظريات البرمجة العصبية اللغوية.
وبذلك فلا قرار أو موقف حرّ للفرد والجماعة خارج تلك الذاكرة التي تكونت من خلال مصادر التنشئة الاجتماعية ومن خلال مصادر صناعة الرأي العام، وإلا تعرض الخارج عن تلك الذاكرة إلى النبذ والإقصاء.
كما أن من خلال تلك الذاكرة المخصوصة الصانعة لهوية الجماعة تتشكل اتجاهات الجماعة وأفكارهم وعقائدهم.
وبناءً على توحيد الذاكرة وخطابها الإيديولوجي القصدي المخصوص لأي جماعة يمكن التحكم في أحادية استنتاجات الجماعة نحو المفاهيم والأفكار والمواقف.
ولا شك أن توسيع دائرة صناعة الذاكرة الخاصة والهيمنة عليها لتشمل جماعات متعددة ومختلفة كماً وكيفاً إضافة إلى الجماعة الأولية أصبح في ضوء نظريات الاتصال والتأثير هو أمراً مُتاحاً، من أجل توحيد العالم في صيغة واحدة، وتحويله إلى قرية صغيرة تحكمها سلطة واحدة، وهذا التحكم أسس بدوره لصورة جديدة من الاستعمار الثقافي الذي يسعى إلى توحيد رؤية الرأي العالمي نحو معايير الخير والشر وتذويب جدار الملح الفاصل بين الثقافات المختلفة، وما ينبني على تلك المعايير من تأسيس مُتخيّل خاص للذهنية الجمعية العالمية بملامح البطل المُنقّذ للبشرية البطل الذي يباركه الإله وُيدعمه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو مُتخيّل يصنع البطل المقدّس.
- جدة