آخر فلسفات الهنود في جولتنا هي (الفلسفة البوذية)، وخلاصة دراستي للبوذية، تظهر في تسع نقاط أساسية هي:
1- أول نقطة يفضّل أن ندخل بها في نظري، هي أن مدارس البوذية تتفق في الجملة على أن السلام والحكمة لا يوجدان في النظريات والمثاليات المجردة، فلا قيمة عندهم لأي كلام أو فكر نظري إلا إذا أمكن تحقيقه وتطبيقه بشكل مباشر في العمليات والتفاعلات والسلوكيات الواقعية المتعدّدة.
2- ظهر لي - بالنظر البحثي الشامل في أساسيات الفكر البوذي- أن كلَّ مدارس هذه الفلسفة تدور دائمًا في فلك كلمة (معاناة) فغالب نشاطاتهم وأفكارهم وجهودهم دندنة متناغمة متواصلة حول معانيات البشر المختلفة، وخاصة الكبرى المشتركة منها، كالفقر، والمرض، والبؤس، والشقاء، والقلق والخوف من الموت. والحقيقة أننا كبشر- رغم كل ما نعيشه من معانيات- من النادر أن نجد بيننا من يسهب بصدق في البحث الجاد العميق عن الأسباب الكبرى المشتركة للمعاناة مجتهدًا في القضاء عليها، وهذا ما فعله بوذا وأتباعه، ومن هنا برزتْ الأهمية الكبرى لهذه الفلسفة.
3- بوذا هو شخصية فلسفية ملهمة، واسمه (جوتاما سد هارتا - بوذا) وهناك قصة ماتعة هامة جدا، تواترتْ في تأكيدها مصادر كثيرة موثوقة، تفسر لنا السبب الحقيقي الذي جعل «بوذا» يسير في هذا الطريق، أعني طريق الفلسفة التأملية الهادفة للقضاء على معانيات البشر، وهي - بصياغتي الاختزالية- أن بوذا ولد فوجد نفسه ابنًا لملك يحكم إمارة عظيمة.. وكان هذا الأب الحاكم، يبذخ على ابنه من كل الثروات وييسّر له الحصول على كل ما يشتهي من الملذات، من سكن القصور وأجمل زوجة ونساء خادمات وأموال طائلة؛ ليصرفه عن التفكير في الآلام والصعاب ورؤية الوجه الآخر القبيح للحياة؛ لأن هذا الملك كان يعلم أن ابنه إذا أدرك شرور ومصائب العالم، قد يبتعد عن الملك والرفاهية، ويتجه إلى التقشف والزهد والحزن، وهذا ما لم يكن يريده هذا الأب.
ولكن بوذا الشاب، كان يرى - أثناء تجوله بعربته الفارهة التي تجرها الجياد- كثيرًا من صور معانيات ومتاعب البشر، وكان يسأل سائق العربة كلما مرَّ بموقف لكبير سن يعاني من آثار الشيخوخة مثلاً، أو بموقف لمريض يكابد ويلات المرض، أو بموقف فقير لا يجد قوت يومه.. وما شابه ذلك من أحداث. وكان هذا السائق يجيب بوذا بإجابات من قبيل: «أنتم يا سيدي ونحن أيضًا جميعنا من نوع قُدّر عليه أن يشيخ ويمرض ويموت».
وفي يوم من الأيام: مرَّ بوذا بعربته على رجلٍ حليق الرأس، تظهر عليه ملامح المتنسكين، من هدوء وسكينة، ويلبس ثوبًا أصفرَ اللون، ويبدو قانعًا وفي حالة سلام وتصالح مع نفسه. فسأل بوذا سائق عربته عن هذا الشخص، فأجابه السائق: إنه من الأشخاص الذين «مضوا قدمًا» يا سيدي، فألحَّ الفضول على بوذا واقترب من الناسك وسأله: لماذا أيها المعلم يختلف رأسك عن رؤوس الآخرين وكذلك ملابسك لماذا ليست كملابسهم?. فقال الناسك: أنا يا بني شخص مضى قدماً. فقال بوذا: ما معنى هذا؟ فأجابه الرجل: أي أنني أصبحتُ متعمقاً في التجارب والتأمل والحياة الدينية، وضليعًا في الأعمال الطيبة، ومحبًا ومكثرًا من الخير والسلوك الجدير من خلال خبراتي، التي علمتني أن أفضل حياة هي أن لا يتأذى منّي أحد، وأن أشفق على كل كائن من الكائنات.
تأثر بوذا كثيرًا بهذا الموقف، وأمر سائقه على الفور بالعودة إلى القصر، وأعلن أنه قرَّر أن يعيش بطريقة مشابهة، فحلق رأسه، ولبس ثياب النساك، ولم يعد يكترث كثيراً بملذات الدنيا.. ثم بدأ يزيد من التأمل تدريجيًا، حتى وصل إلى مرحلة الاعتكاف في تأمل «المعاناة» بكل أشكالها وصورها التي عرفها، ومن هنا كانت رسالته هي بذل أقصى الجهود لوقف كل معاناة أو التقليل منها قدر المستطاع، فشاع ذكره وذاع صيته، وبدأتْ من هنا أولُ الخيوط التي نُسجت منها الفلسفة البوذية.
4- بعد أن بذل «بوذا» من وقته وجهده الكثير في الطريق إلى القضاء على المعاناة الإنسانية، وصل إلى نتيجة خلاصة مفادها أن خير الأمور الوسط، فالمبالغة في قسوة العيش والتقشف الزائد لا تصنع السعادة ولا تقضي على المعاناة؛ وكذلك –في المقابل- المبالغة في الملذات والإسراف على النفس في تتبع وملاحقة الشهوات لا تجدي نفعًا في القضاء على المعانيات. وبناءً على ذلك: اختار «بوذا» طريق الاعتدال بين المبالغتين السابقتين، وركز في طريقه كثيراً على التطهّر، وضبط النفس، والتسامح، وحب العلم والعمل، وإصلاح الأسرة قبل أي شيء آخر.
5- هناك مربع جميل نستطيع من خلاله فهم البوذية ببساطة وعن قرب وكثب، وهو أن هناك أربع حقائق نبيلة، الأولى هي أن هناك معاناة، فحياة الإنسان معانيات متتالية منذ ولادته وحتى مماته. والثانية هي أن لهذه المعاناة أسبابا، أهمها الركض المحموم خلف الرغبات والشهوات والمبالغة في السعي لإشباعها. والثالثة هي أن المعاناة يمكن القضاء عليها إذا أحسن الإنسان ا لتعامل مع أسبابها والتخلص منها ومن الجهل. والرابعة هي أن طريق القضاء على هذه الرغبات الجامحة التي تسبب المعاناة، هو الطريق ذو الشعب الثماني، المهم جدًا عند البوذيين؛ لأنه السبيل لاستيعاب الحقائق النبيلة الأربع والقضاء على المعاناة، ولذلك رسموا له عجلة ثمانيّة، تسمى عجلة «دارما» التي تستخدم عادة للرمز إلى هذا الطريق، وتشبه إلى حد كبير - فيما ظهر لي- المقود الذي يمسك به ربان السفينة لقيادتها. واللافت الجميل هو أني لاحظتُ أثناء بحثي أن الكثير من دفات أو دفاف السفن، لها ثمانية مماسك أو مقابض، ويبدو لي - كنتيجة لهذه الملاحظة- أن البوذيين اختاروا رمزهم هذا بعناية، في تشبيه بليغ لطريقهم ودوره في السعادة والنجاة، بدفة السفينة التي إذا أحسن القبطان إدارتها وصلتْ به إلى بر الأمان والسلامة.. وقد اختلفتْ عباراتُ الباحثين والمترجمين العرب في صياغة شعب هذا الطريق الثُمانيّ، فمنهم من يراها هكذا: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة الوعي أو الانتباه العقلي، وسلامة التركيز.. ومنهم من يترجمها بأشكال أخرى، مثل: الفهم الصحيح، والفكر الصحيح، والكلام الصحيح، والسلوك الصحيح، والمعيشة الصحيح، والجهد الصحيح، والوعي الصحيح، والتركيز الصحيح.
6- يتفق الكثيرون على أن «بوذا» صبَّ جل اهتمامه على «الأخلاق» وعلى «سلوك الإنسان» والتعمق في ذاته، ووضع الطرق والتعاليم التي تزيد من سعادته وتبعده عن الهم والألم.. أما الدين والنواحي اللاهوتية والثيولوجية المختلفة، فلم يكترث بها بوذا، فليس للميتافيزيقا مثلا مكانة واضحة في فلسفته، بل ظهر دائمًا أنه ينتقد الآلهة والكهّان الذين يقبعون في الأبراج العاجية البعيدة، دون تدخل واضح في متاعب البشر؛ بالإضافة إلى أن «بوذا» كان يعترض على المبالغة في التقسيمات الطبقية، وعلى فكرة ذبح القرابين وتقديمها للآلهة، وهي الفكرة السائدة في الميثولوجيا والأساطير والطقوس الهندية.
7- البوذية أرادتْ أن تقول للناس -حسب فهمي- بكل وضوح وسلاسة وبساطة واختصار: منذ أن يولد الإنسان حتى يموت وهو في آلام ومتاعب مختلفة، وهذه الآلام ناتجة عن «الرغبات» وشدة الاستجابة لها، وهذه الرغبات سببها الرئيس هو (الجهل) في كثير من الأحيان، والمحصلة النهائية لكل ذلك، هي أنه ينبغي على الإنسان العمل بجدية للانتصار على الجهل بمختلف أشكاله؛ لأنه إذا نجح في التخلص من الجهل، ستختفي وتضعف الرغبات وخاصة الجامحة المبالغ فيها، وإذا اختفتْ وزالتْ هذه الرغبات زال معها الألم والمعاناة بمختلف صورها.
8- ظهر لي أن البوذيين يؤمنون بالتناسخ، وفق صورة قريبة من إيمانات كثير من الفلسفات الدينية الهندية الأخرى، فنحن كبشر - حسب عقيدتهم- ننتقل من حياة إلى حياة، نتيجة لأعمالنا وأخطائنا السابقة، ويستمر الإنسان في هذه الانتقالات والتناسخات، حتى يصل إلى مرحلة (القديس) وتسمى أيضاً (النرفانا) وهي عند بوذا حالة نفسية تصل فيها نفس الإنسان إلى مرحلة «الاستسرار الروحي» وهي حالة يطول ويصعب شرحها، وأقرب تبسيط لها أنها مرحلة من السلام الروحي بعد أن يتخلص الإنسان من كل السلوكيات السلبية، فتتحرّر نفسه، والغاية الكبرى من هذه النرفانا، هي إنقاذ نفس الإنسان وإخراجها من دائرة التناسخ، الذي شرحناه أكثر من مرة في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة.
9- زبدة تصوّري هي أني لا أرى الفلسفة البوذية متشائمة جدًا، ولا متفائلة جدًا، بل في موقف وسط قريب من وصف (الواقعية) إلى حد كبير، فهي لا تخدع أتباعها بأنهم يعيشون في حياة النعيم العظيم البعيد عن الأحزان والأتراح، ولا تبالغ أيضًا في إخافتهم وإرعابهم مما في الحياة من قسوة ومتاعب ومعانيات ومخاوف وهمية مبالغ فيها عند المتشائمين، بل توضح لهم الأمور كما هي محيطة بهم، ثم تعمل بجدية وصرامة، إلى إرشادهم للطرق الصحيحة للتعامل مع هذا الواقع، وبالتالي الاقتراب من السعادة والسكينة، والابتعاد عن الألم والحزن والهم والمعاناة.
وائل القاسم - الرياض