مراجعة سريعة لقوائم الإنتاج الفكري تبرهن على أن التعليم العام لدينا قد نال جزءاً وافراً من الاهتمام نقداً، واستشرافاً، وتقويماً، في مجالاته كافة، بدءاً من صياغة السياسات والاستراتيجيات، وانتهاء بالمخرجات التي يتفق كثيرون على مستواها المتواضع، الأمر الذي يثير ضجة دائمة على المستوى الإعلامي، والمراجعة المعرفية الناقدة على مستوى الإصدارات المتخصصة في المجال.
قراءات ودراسات عديدة قدمها مختصون وتربويون بعضهم على رأس العمل، وآخرون غادروا الكراسي فأتت أعمالهم تحمل خبرات عريقة وانتقاداً بنّاءً، وبعضها يرصد يأساً وحسرات على عربة تعود إلى الخلف، أو هي لا تبرح مكانها كما يتطلب العصر وتحدياته.
ربما كان على التعليم ومؤسساته أن يدفع مبالغ عالية ليحصل على هذه الدراسات والآراء لكنها أتته على طبق من ذهب خالصة لوجه التربية والتعليم وبناء الأجيال، ومع ذلك لم تنل هذه الدراسات حقها من الاحتفاء والتأمل والمراجعة وبقي أثرها محدوداً ونادراً.
لم نسمع عن ملتقى ثقافي تربوي، أو ندوة متخصصة تقودها المؤسسة التعليمية لمراجعة العطاء الفكري، وقياس جدواه، ومدى ارتباطه بالميدان، وحدود القدرة على تبنيه أو رفضه، والمشروعات الممكنة لتنفيذه، فالتعليم والتربية لا يقوم نجاحهما إلا بعقد شراكات واضحة بين عدة أطراف منها الأسرة، والمثقفون، وصناع الرأي، والإعلام ووسائله أيضاً من أجل تقليص الفجوات الصراعات، والسعي إلى تآلف يحقق نجاحات يقطفها الجميع.
كنت أتمنى أن تدار فعاليات ندوة مشتركة بين طرفي الثقافة والتربية على غرار الندوة الشهيرة التي عقدها «مكتب التربية العربي لدول الخليج» قبل ثلاثة عقود بعنون «ماذا يريد التربويون من الإعلاميين، وماذا يريد الإعلاميون من التربويين؟»، وقد خرجت أعمالها في ثلاثة مجلدات بقيت في الذاكرة، وسرى أثرها في أعمال تربوية كثيرة خاصة في عهد وزير التربية المثقف الدكتور محمد الرشيد، رحمه الله، الذي تبنى الندوة عندما كان مديراً لمكتب التربية، ونفّذ أجزاءً منها عندما تولى حقيبة التعليم في البلاد.
أتذكر هنا مجموعة من أهم الكتب الفكرية التربوية الجميلة التي صدرت ولم تنل حقها من الاهتمام والتأمل منها «إصلاح التعليم» لأحمد العيسى، و»اختطاف التعليم» لحمزة المزيني، و»خواطر جريئة» لمنيرة جمجوم، و»كهف أفلاطون» لأحمد الشدوي، و»50 عاماً في المدرسة» لخليل الحذيفي، وصولاً إلى كتابين ينتميان إلى كتب السير الذاتية وفيهما إشارات جريئة عن الواقع التربوي ومفاصل الفساد والترهل، الأول بعنوان «حدث في المدرسة الأهلية» والثاني» كشكول طالب ثانوي».
وعلى الضفة الأخرى نجد مجموعة كبيرة من الرسائل العلمية التي اشتغل أصحابها على قضايا تربوية وتعليمية مهمة حازوا عليها درجات أكاديمية، ثم رحلت إلى أرفف المكتبات الجامعية والمستودعات دون نشر، أو مراجعة، أو رعاية للتوصيات التي خرجت بها؛ وهذا مؤسف جداً!
مجلة «المعرفة» بدورها غابت عن المشهد، وقد كانت همزة وصل، رغم محدوديتها، بين الأطراف التربوية وقادة الرأي والإعلاميين، وهي أيضاً قادت حملة مميزة لنشر كتب الفكر والإبداع والتربية والقضايا المشتركة، لكنه مشروع لم يدم طويلاً، كما يحدث مع جل مشروعاتنا!
قد لا يطول انغلاق المؤسسة التربوية والتعليمية على نفسها أو «اجترار أفكارها» بمنأى عن الشركاء الآخرين فثمة بعض الضوء، وقليل من الأمل حيث بدأت «هيئة تقويم التعليم» أعمالها، ولعلها ترى في الإنتاج الفكري عوناً لها إضافة إلى قوائمها المعيارية ورجالها، وبعضهم كان جزءاً من مشكلة التعليم ثم عاد محملاً بالمعايير وجاهزاً لإصدار الأحكام!!
محمد المنقري - الرياض