وها هو الخريف قد بات يأتي مسرعاً لا محباً. إنه فلسفة نهاية الحياة وذبول الأزهار وتراجع الشباب. الخريف لم يكن يوماً صديقاً للمحبين والعاشقين، بل كان ولا يزال سيد العذَّال في نفوس الهواة والمتولعين.
الخريف يعيد إلى أذهان الأبرياء فقد آبائهم، وموت ضمير الدنيا وهي توجعهم بفقد حبيب، أو غياب قريب، أو وداع رفيق.
كان الخريف يوماً ينظر بحسد إلى توهج الربيع ونضارته، فأوشك بقلبه المملوء بؤساَ أن يصيبه، فيحوّل بشرته إلى اصفرار تام لا يقبل به إلا ظلام الموت من بعده.
إنني أتذكر ولا أزال مقطوعة رأيتها أجمل ما قيل في الخريف من معنى له صلة بفلسفة هذا الفصل الحزين من السنة. وهي مقطوعة سأسردها عليكم مجهولة المصدر، ولكنه قالها الفنان السوري الكبير ياسر العظمة عام 97 في ثلاجة الموت، حينما مثَّل مشهد الموت والحياة، والعذاب والنعيم، والنار والجنة. يقول: (ها هو الخريف قد أوشك أن يولي، وسائر الأشجار ما زالت كئيبة، والأرض موحلة، عسيرة المسالك. ثم تراءت عن بعد طبقة من الضباب ليست كثيفة، وأخذت تعلو سطح مياه النهر. وأخذت النسائم الباردة تهب برفق، ولكنها لبرودتها تلسع كالسوط!).
ويستمر السوريون روعةً وجمالاً في وصف الخريف ومحاكاة فلسفته، فها هو شاعر عصره نزار قباني يبكي الخريف ليقول:
(وما بين فصل الخريف، وفصل الشتاء...
هنالك فصل أُسَمِّيه فصْل البكاء!
تكون به النفس أقرب من أي وقت إلى السماءْ!)
فمن يا ترى يصدّق أن السوريين قد استشرفوا هذا الذبول في وقت مبكر! إنه بحق إحساس الملايين وقد التأم جنباً إلى جنب مع أرواح الشعراء وجهابذة القلم.
إن العالم اليوم يعيش نوعين من الخريف، أحدهما بات يملأ الدنيا ظلماً ووحلاً وبؤساً. إنه خريف ضمائر البشر التي أصبح يتوسد معظمها التسلّط، والطغيان يمد شاطئه بكل حجارة وكسور وإيذاء.
فحتى هذه اللحظة قد مات نصف مليون سوري، لأنهم قرّروا أن يعيشوا ربيعهم، فكان لخريفهم كلمة أخرى، وهي خمس سنين من الذبول والتساقط حتى لكأن سوريا اليوم تبدو جرداء من كل شيء، وعارية إلا من إصرار شعبها الأبي.
لقد آن الأون لإعلان نهاية الخريف السوري عبر كل الحلول بما فيها الحل العسكري. وإنه لمن المؤسف أن تكون المملكة العربية السعودية من الدول القليلة في العالم العربي دعماً للثورة السورية، حيث لا يزال هناك الكثير من التعاون السياسي والاستخباراتي بين أنظمة عربية والنظام السوري الفاشي الذي بات زواله مسألة وقت لا أكثر.
إن المملكة وكلاعب أساسي في مصير الأزمة السورية لا يمكنها انتظار النظام الروسي والإيراني حتى يمليان مخططاتهما على الشعب السوري؛ بل ستكون المملكة دوماً في صف وحدة سوريا الأمر المؤدي إلى انتقال سياسي لا يشمل الأسد، وبضغط عسكري جديد ولافت عبر الجيش السوري الحر، ليتم خلق ربيع جديد يعقب هذين الخريفين إن شاء الله.
عبدالله بن سعد العمري - الولايات المتحدة