هناك امرأة.. هناك حياة.
وهناك امرأة.. هناك سلام.
وهناك امرأة.. هناك صغار.
وعندما يكون هناك امرأة، فهناك حقيقة.
فوحدها المرأة التي تشقيها الحروب، وتدمي روحها، تثكلها، ترمّلها، تيتمها، لأنها تلتهم أحبة قلبها الرقيق.
أسبوعان وأنا في بيلاروسيا، أنصت إلى أغنيات فولكلورها، اكتشفت أسراراً خفية تربطني بالكاتبات الروسيات، وأرضهن، من هذه الأسرار البزة العسكرية التي تمتد بين آبائهن وأبي, وسر آخر هو تلك الزهور العطرية التي تبدو كتاج يهمس لخصلات شعورهن تشبه زهوراً اعتادت نساء قريتي وضعها بين خصلات شعورهن الكستنائية.. وسر ثالث تلال أرضها التي تشبه تلال قرية أمي.
وهذه المرة تأتي إلي الصحفية الكاتبة سفيتلانا أليكسيفيتش عبر نوبل، إنها سفيتلانا التي حددت حلمها منذ طفولتها حيث كان حلم طفولتها أن تصبح كاتبة.
كانت بهجتي شاسعة وأنا أتابع سفيتلانا الطفلة التي ولدت في مدينة أوكرانية، وأعرف عن جلساتها المسائية مع أهل قريتها تستمع إلى نساء يحكين حكايات مرعبة عن الحرب العالمية الثانية والتي انتهت قبل ميلادها بسنوات قليلة، لأجد نفسي مع جولاتها التي طافت عبرها أرجاء الاتحاد السوفيتي بجمهورياته الخمس عشرة، وقد كانت تقوم بجولاتها على حسابها الخاص حيث لم تساعدها الجريدة التي تعمل بها في ذلك.
في جولاتها تلك كانت الصحفية والكاتبة الشابة سفيتلانا تحمل أدواتها الصحفية مع مظلتها تسير تحت المطر، وتمشي بحذر بين ندف الثلج على طرقات الجمهوريات السوفيتية باحثة عن الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، وعن النساء اللواتي شاركن في الحرب السوفيتية في أفغانستان، وأيضاً عن عائلات ضحايا تشرنوبل المخيف لتسجل حكاياتهم.
سجلت سفيتلانا أليكسيفيتش في كتابها أولاد زنكي الصادر عام 1992، حكايات النساء المؤلمة في أسوأ الحروب التي مرت في القرن العشرين، وهي الحرب السوفيتية في أفغانستان، حيث شاركت فيها المرأة في الحرب، ولكن ليست كممرضة كما اعتادت، بل كجندي مقاتل، فكانت تـفجر القنابل، وتطلق الرصاص على العدو، وكانت في الوقت ذاته تقاتل قائد كتيبة يحـاول اغتصاب كينونتها الأنثوية.
التقت سفيتلانا أليكسيفيتش أيضاً آلافاً من الجنود، والأطباء، والأطفال، كما رصدت أسى يملأ عيون أناس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، والأزمات التي حلت بجمهورياته وشعوبها، وكانت بلادها بيلاروسيا أحد هذه البلدان.
سمعت سفيتلانا بكاء الأرامل والأمهات الثكالى والأطفال، ودموع الرجال فأبت إلا أن تنقل أصواتهم إلى العالم، لعل من يصنع الحروب يسمع نحيبهن ونحيبهم، وتتوقف الحروب.
لم تلتق سفيتلانا أليكسيفيتش رجالات الدولة أو الوزراء، ولكنها التقت الأفراد العاديين لأنهم الأكثر صدقاً، وعفوية وتلقائية، وأكثر من تضرر من الحروب.
كان خطأ سفيتلانا أليكسيفيتش أنها لم تمجد الحرب السوفيتية في أفغانستان كما فعل معظم الكتّاب الروسيين في تلك الفترة، ولكنها تركت أبطال كتبها يروون أحداثاً مأساوية ودموية على أرض الواقع، ويكشفون أسرار الصناديق المختومة التي امتلأت بالجثث التي تم شحنها إلى الاتحاد السوفيتي، وهي تحمل جثث جنود اشتروا لأمهاتهم هدايا تذكارية، وكتبوا لزوجاتهم رسائل أشواق يتخيلون كيف سيحضنون أطفالهم الذين تركوهم أجنة في أرحامهن، ورسموا لحبيباتهم قصائد حمراء ولكنها لم تصلهن.
وكعادة المبدعين وأصحاب مبادئ الحق والعدالة والسلام قامت السلطات البلاروسية بالتضييق عليها وعلى كتبها وعلى فكرها الإنساني، لتغادر تلال وطنها بيلاروسيا عام 2000 م وهي تحمل أغنيات كوبلينكا معها، لتتنقل بين إيطاليا وألمانيا والسويد، وتحصد عدداً من الجوائز، ثم تعود عام 2011 إلى بيلاروسيا.
هزت رؤية الشابة التي كانت تصف لسفيتلانا أليكسيفيتش مشهد وفاة زوجها من التسمم الإشعاعي، ليكون حزن تلك الشابة بين صفحات كتاب أصوات من تشرنوبل والذي نشر عام 1997م.
لم تكتب سفيتلانا أليكسيفيتش التقاريرالصحفية فقط، ولكنها كتبت أيضاً الشعر وعدداً من المسرحيات والنصوص السينمائية، واستمرت في البحث لابتكار نص جديد متأثرة بالكاتب البيلاروسي أليس أدموفيتش والذي كان يهوى كتابة التاريخ الشفهي.
في لقاءاتها كانت تقول: «يجب أن تجعل الناس يهبطون إلى أعماقهم».
لم تكتب مقدمة لكتابها أولاد زنكي، بل تركت الناس يتحدثون بحرية «لا يحتاج الرجال والنساء الذين يعبرون عن أفكارهم وتجاربهم في الصفحات التالية إلى مقدمة، فقط يجب أن يتحدثوا عن أنفسهم».
تلك هي سفيتلانا، التي يعني اسمها النور، حيث استيقظ شاعر لحظة إعلان الأكاديمية السويدية فوزها بجائزة نوبل للآداب، وتلا عليها قصيدته الخالدة سفيتلانا التي هزت روسيا ذات يوم وما زالت.
ليردد العالم اسم الشجاعة سفيتلانا أليكسيفيتش، ليعانق أسماع نساء من أقدام في كل جهات الأرض، ولينبت في الأديم زهوراً فواحة تنتظر صغيرات الأرض، ليسقينها بماء فكر حريتهن وكرامتهن.
تركية العمري - الدمام