-1-
يجب أن نستحضر في البداية أنّ البنية الفكرية منطقة متشظية في الإنسان، تمنحه القدرة على تفحّص الذوات والقيم والأشياء، ثم استعراضها وعرضها رمزياً على ما يختزنه من تجارب وقراءات؛ لتنتهي به إلى أفكار محدّدة تؤثّر في كلّ شيء له علاقة بذاته (ينظر: هازليت: التفكير علم وفنّ) بما في ذلك حالات التبنين التي تخضع لها نصوصه الأدبية.
ولذلك تتطلب هذه البنية - في مستوى الإبداع الأدبي – دقة في الملاحظة، وسيطرة تتمثّل في مبدأ الاختيار، ورؤية قادرة على توظيف العناصر والتقنيات المتنوّعة لتحقيق متطلبات دلالية وجمالية محددة، كما تتطلب أيضاً طاقة إبداعية قادرة على التنوّع والتجدّد، وذاكرة فاعلة لا تقف عند حدّ الخزْن، بل تذهب بعيداً في التصنيف وطرح الأسئلة القلقة، وكلّ ما سبق يجسّده التفاعل المستمرّ بين التجربة الحية (التي تؤدّي إليها حياة الإنسان)، والقراءاتُ الواسعة التي تجعل كلَّ نص من نصوصه محصِّلة قراءات لما لا يحصى من النصوص، ولما لا يحصى من المعارف (ينظر جودث جرين: التفكير واللغة).
وعليه فالحديث عن البنية الفكرية في روايةٍ ما لا يقف عند حدود المستوى السطحي الذي نجده في حقل الموضوعات أو جملة الرؤى والتصوّرات المباشرة التي تقدمها الرواية، أو تعرضها إحدى شخصياتها، بل يتجاوزه إلى مستوى عميق، تمثله البنية الجمالية التي تنهض عليها الرواية.
إنّ التعامل مع السرد والوصف والحوار والرؤية والزمن والمكان والأحداث والشخصيات هو في الأصل عمل فكري من الطراز الأول، يشفّ به المبدع/ المبدعة عن التراكمات والمعارف والعادات، التي تشكّل - مجتمعةً - تصوّره لذاته، وللعالم الذي يحيط به، وتمنحه القدرة على التعبير عن هذا التصوّر بخطوات فكرية، يتمثّلها النقادُ عادة بمقاربة البنيتين: الموضوعية (مستوى فكري سطحي)، والجمالية (مستوى فكري عميق).
وتدعم هذا التوجهَ مجموعةٌ من الأسس، منها:
1- أنّ الأدبَ لا يتغيا - في الأصل - التعبيرَ عن الحياة وحسب، أو التعمّقَ في الانفعال الوجداني للفرد أو الجماعة، أو مجرّد الوجود السلبي الذي يقوم على تصوير ردّة فعل تجاه مادة أو معنى، بل هو حركة مستمرة، يقود من خلال تطوراته إلى إنتاج حياتي آخر، يتابع سلسلة الحياة (ينظر: وجيه فانوس: دراسات في حركية الفكر الأدبي).
2- أنّ ثمّة علاقة وثيقة بين الفكر واللغة، واتصالُ الفكر باللغة بابٌ لاتصاله بالثقافة، وهذا يعني أنّ الفكر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بجملة العادات التي يكتسبها الإنسان في سياق ثقافي معيّن، وأنّه ليس ثقافة عالِمة وحسب، بل نتاج وضعيّات معيّنة من المعايشة والمتابعة والتواصل الحرّ المباشر.
وعليه فمن السهل الاستدلال على البنية الفكرية لتجربة روائية بعينها من خلال متابعة المستويين: السطحي (المتمثل في الموضوعات والقضايا)، والعميق (المتمثل في التجربة الروائية بمكوّناتها الثلاثة: الوعي بالذات، وبالكتابة، وبالشكل الروائي).
-2-
لست هنا بصدد عرض رؤية عامة عن البنيتين في الرواية السعودية الجديدة، لكنني أحاول توصيفها من الخارج بالشكل الذي يجعلنا أمام فرضية أولى حول بنيتها الفكرية.
من خلال المتابعة المسحية لعدد من الروايات السعودية التي أصدرها شباب وشابات في السنوات العشر الماضية نستطيع أنْ نستشرفَ واقعَ هذه البنيةِ وحدودَها، ونستطيعُ أن نضع أيدينا على المعطيات الأولى الدالة على ضعف بنيتها الفكرية، وتخلّف وعيها بسمات وخصائص الشكل الروائي، ومن أبرز المعطيات التي تأخذ القراءةَ الأوليةَ إلى هذه النتيجة:
المعطى الأول: أنّ كماً كبيراً من روايات هذه المدوّنة يعود إلى أسماء شابّة (من الجنسين)، ولقد سجّلتُ في عرضٍ تاريخي سابق أنّ من الروائيات من أصدرت روايتين قبل أن تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، وأنّ عدداً كبيراً من الروائيين الذين يشغلون مساحة كبيرة من الدراسات النقدية في الألفية الثالثة لم يتجاوزوا العقد الثاني مع أعمارهم، ولا تشفّ سيرهم الذاتية ولا اللقاءات التي أجريت معهم عن نشاط فكري أو ثقافي، لا بل إنّ إحدى الروائيات تتباهى في لقاءاتها الإعلامية بأنها كتبت روايتها الأولى وهي في المرحلة الابتدائية !! وتدافع عن هذه الرواية، وتصفها بالريادة، وتعدّد شهادات النقاد لها.
وأنا أفترض - في هذا المستوى الأولي – أنّ صغر سنّ الروائي/ الروائية يعادل موضوعياً حداثة التجربة، وضعف المعرفة، وهذا ولا شك يتعارض مع وجود بنية فكرية فاعلة، وقادرة على إنتاج رواية بمستوى هذه المرحلة وتحدياتها !
إنّ الإنسان يمرُّ في سنواته الأولى بمرحلة اكتشاف ما يحيط به، ويحتاج إلى سنوات مثلِها ليبلغَ مرحلة اكتشاف الذات، وربما احتاج إلى مثل ذلك أضعافاً مضاعفة ليبلغ مرحلة اكتشاف العالم، وأحسب أنّ حساب السنوات سيطول بنا عندما نتحدث عن تبني رؤية ما تجاه هذا العالم، ثم مرحلة التعبير المكثّف الواعي عن هذه الرؤية؛ لذلك أعدّ صغر سن الروائي معطى أولياً يفضي بنا إلى التشكيك في البنية الفكرية، وهو تشكيك من باب أولى في ثراء الرواية على المستويين الفني والموضوعي.
المعطى الثاني: أنّ كثيراً من الروايات التي صدرت في مطلع الألفية الجديدة لا تعتمد ثقافةً عالِمةً، ومن يقرأ كثيراً منها لا يجد نفسه أمام رصيدٍ قرائي واسع، أو ثقافة عالية تستطيع التعامل مع الأسطورة، والرمز، والتاريخ، ولا يجد لديها الوعي الكافي بما وراء المحسوسات من معانٍ ودلالات.
ومن أكبر الأدلة على غياب الثقافة العالمة في كثير من الروايات اعتمادُها الكبيرُ على الذاكرة (والذاكرة النسوية كما في رواية المرأة)، وجعلُها مصدراً رئيساً بل وحيداً لها، وهي ذاكرة تعرضُ - في الغالب - ولا تنتج أسئلةً جديدة فضلاً على أن تكون عميقة؛ لأجل ذلك تقترب هذه الروايات من حدود السيرة الذاتية، وقد تلتصق بها إبداعاً ونقداً.
ثمّ إنّ هذه الذاكرة لا تروي من مخزونها (ربما لصغر سنّ الروائي)؛ لذلك يظهر في كثير من هذه الروايات ما يمكن أن أطلق عليه الذاكرة الوسيطة، أو ذاكرة الراوي الوسيط، وعادة ما تكون امرأة، وامرأة كبيرة في السنّ؛ الأمر الذي يؤكد القول بضعف البنية الفكرية في هذه الروايات؛ لكونها تفتقر إلى المعايشة أو التواصل المباشر، كما تفتقر إلى الأدوات التي تمكّنها من تقديم قراءة جادة عن الظاهرة أو الحالة التي تقاربها.
المعطى الثالث: الاهتمام الكبير بالبنية الفكرية في مستواها السطحي، فكثير من التجارب الروائية تضحي بالجانب الفني لحساب الرؤية التي تريد إيصالها، ويمكن أن نلمسَ هذا حتى على مستوى الروائيات اللاتي يمتلكن تجربة ثريّة، وقد رصدتُ أكثر من رواية عبّرتْ في خطاب البداية عن وعي جيد بسمات وخصائص الرواية، لكنها في متواليات السرد علّقت عمل البنية الفكرية العميقة، وأحلّت محلها البنية الفكرية السطحية أو الجاهزة، فتحول العمل من كونه رواية لها سماتها وخصائصها إلى منشور احتجاجي ضد الرجل أو المجتمع أو الزمن الماضي.
وقد صرّحتْ أكثر من روائية بأنها لم تكتب لأجل النقد أو لفنية الكتابة، وإنما كتبت لأجل هدف معين، ورسالة أرادت إيصالها من خلال نشر الرواية، بل ذكرت أنّ روايتها إرشادية أكثر مما هي فن روائي.. وأنها تستهدف جيل الشباب, خاصة الفتيات من كتابتها.
هذه معطيات أولية نحصّلها من التوصيف العام أو الخارجي لكثير من الأعمال الروائية التي صدرت مع مطالع الألفية الثالثة، وأقدّر أن تأخذنا متابعة البنية الفكرية من الداخل إلى النتيجة نفسها، الأمر الذي يجعل المشهد الروائي لدينا حفلة بلا معنى، تحضر فيها الأسماء والوجوه الجديدة وتغيب الرواية!
خالد الرفاعي - الرياض