الأسماء ذاتها تتكرر في أغلب الملتقيات الثقافية سواء أكان الموضوع عن الطبخ الثقافي أم عن الموضة الثقافية أم عن التهريج الثقافي...
تجد تلك الأسماء في ملتقيات الفكر، وملتقيات النقد وملتقيات القصة، وملتقيات المسرح، وملتقيات الرواية، ولكنك لا تجدها عندما تكون الثقافة موقفا وممارسة وقيماً.
من نلوم أنلوم المثقف أم نلوم المؤسسة الثقافية أم نلومهما معا؟
أعرفُ مهرجاً يتقن تقليد الأصوات وإطلاق النكت الممجوجة زور ثلاث شهادات (بكالوريوس وماجستير ودكتوراه)؛ ولأنه صديق مثقفين كبار من مثقفي الفنادق صار قيماً على ثقافة منطقته..
أعرف مثقفاً كاذباً يحمل أبياتاً صحوية مريضة وكلمات باردة وعقلاً صغيرا ولأنه صديق مثقفين من مثقفي الفنادق صار قيما على ثقافة منطقته..
من أولاء المثقفون الذين تصبح صداقتهم رافعة للصحوي المغلق العقل وللمهرج البليد !!
وما دور الثقافة في التغيير؟
وهل هم مثقفون حقاً
هل يمكن أن نفصل في الثقافة ما بين المبادئ وما بين الممارسة وما بين السبب والنتيجة؟
زرت في الأسبوع المنصرم صديقا قديما كان يتابعني من بعيد ويقول جميل جداً أنك بدأت تتخلى عن مثاليتك الزائدة عن اللزوم التي يضر بقاؤها منتفخة كزائدة دودية قد تقضي عليك دون عملية استئصال سريعة ..
قلت : وكيف ذاك؟
قال : درجت على انتقاد أسماء كبيرة ولكنك بدأت تهنئ شخصاً صغيرا سارقا.. لا ألومك لا بد من المجاملة وهكذا هي الحياة !!
قلت له : يا صديقي أنت تخلط كعادتك ثم تقدم رؤية غير صحيحة . إن أول خطوة في النظر إلى حقائق الأمور هي التحليل ثم الحكم بحياد تام.. فأنا لست مثاليا ولا أدعي ذلك..
أما أولئك الكبار الذين نقدتهم فهم قد تحولوا إلى غير ذواتهم.. تحولوا إلى علامات مضيئة أو غير مضيئة هذا غير مهم، ولكنهم جاوزا مساحة المحدود إلى الأفق الممدود، ونقدهم كعلامة وكمنجز هو جزء من ممارسة الثقافة .. ولا تسأل عن نقدهم بل اسأل عن كيفية النقد الذي لا ينفصل عن عملية النقد ذاتها..
في حين أن مجاملة من هم في مساحة المحدود لا غضاضة منها، من باب التشجيع، ومن باب ترك الحياة تجري إلى مستقرها.. ولا أعرف عن من ذكرت أنه كان سارقا وإلا لطويت صفحا الذكر عنه.. ، ولن أنقد أمثال هؤلاء إلا إذا دخلت أعمالهم وتأثيرهم في إجراء الهدم المؤسسي للمبادئ وللمثل الرفيعة وقاموا بشرعنة «الفصام الثقافي « في حياتنا كجزء منها أو قاموا بتكريس « العزل الثقافي « في شكليات لا تضر ولا تنفع ...
ولذا فأنا لم أرجع، ولن أرجع يا صديقي العزيز عن مسار التنوير وعن مسار يرتفع بي وبك وبأهلنا وبحاضرنا إلى الأرقى والأرفع مهما كانت الأقاويل، ومهما توهم المتوهمون، ومهما تضخم الأصاغر
إننا حين نتابع مجريات الثقافة ما بين « الفصام الثقافي « الذي يجعل المثقف يكتب ويبدع بشكل، ويمارس الثقافة على النقيض تماماً مما يكتب ومما يبدع، وبين « العزل الثقافي « الذي يهدف إلى ثقافة لا تأثير لها ثقافة معزولة عما حولها.. ثقافة في علبة تستعمل ثم تغلق العلبة ثقافة تهدف إلى قصر عمل المثقف على الكتابة الباردة جداً.. ثقافة تتكاثر فيها المطبوعات والملتقيات التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة سوى خسارة في العمر وفي المنجز وفي القيم وفي المعرفة ...
حين نتابع ذلك نعلم علم اليقين أن الثقافة صارت تجري مكرهة في أخاديد وقوالب محددة ؛ فالفصام الثقافي صار هو الأغلب وصار طريقة في الحياة .. يحاول إقناعك كل من تتلقيه بأن تصبح فصامياً لتعيش.. المثقف الفصامي هو السائد .. أو هو المعد بعناية ليكون في واجهة المشهد ..
أما العزل الثقافي فهو رسم حدود للمثقف بمعنى أن الثقافة هي مجرد شيء محصور هامشي لا تأثير له ولا احتياج لثرثرته ولمبادئه ولقيمه ولمعرفته الهشة غير التخصصية ولا لإبداعه الذي لا يغير ولا يزيد ولا ينقص في الوعي.. ولا في الواقع..
إن وضع تلك القوالب للثقافة ينطلق من ثقافة ما قد تكون بدائية.. قد تكون متخلفة .. ولكن الحقيقة أن أي ممارسة في لحياة هي تمثيل لثقافة ما وناتج لثقافة ما، أو تمثيل لإيديولوجيا ما أو تمثيل لهما لا يمكن بحال فصل الممارسة عن الثقافة.. الثقافة تدخل في كل شيء كالأيدلوجيا تماما، ولكنها لا يمكن أن تكون ثقافة إلا إذا كانت ضد الإيديولوجي، وضد اللا حياة، متعصبة جدا للحياة وللأمل عارفة كيف توظف المعلومة المتخصصة في شكل مبسط .. عارفة بتجارب البشر وخبراتهم وفكرهم وهوياتهم وعارفة بذاتها .. وأول الطريق في مجتمع كمجتمعنا هو الوقوف ضد الفصام الثقافي وضد العزل الثقافي .. من وقف معهما ليس بمثقف.. مهما حاول، ومهما كتب، ومهما أبدع هو في الحقيقة عائق ثقافي أو مطب ثقافي أو حفرة ثقافية أو قبر ثقافي، أو جهاز تسجيل ثقافي أو سمه ما شئت إلا أن يكون م ثقفاً حقاً ..
قد أتفهم أن يكون لك صديق يعرف في تجارة البقر والغنم فالحياة خطوط قد تتلاقى وقد تتباعد، ولكن لا تفرضه بائعا للكتاب في معرض للكتب حتى إن علمته كيف يبيع وكيف يشري ليظهر كبائع كتب لا كبائع بهائم.. فهو لن بنظر إلى تلك الكتب إلا كما ينظر للبهائم ولن يمارس الثقافة إلا بمنطق خارج عن منطق الثقافة ..
وتستمر الثقافة لتدافع عن نفسها إذا عرفت نفسها .. إذا نحتت أفكارها بمقاس ممارستها.. عندئذ سنتغير إلى ثقافة مسؤولة تنهض بالمجتمع وتشكل جزءا من ممارسة الحياة الجميلة الراقية .
ومن هنا شتان الشتان بين مسؤول مثقف ممارس للثقافة، وبين مسؤول تكنوقراط تخصصي لايعرف كيف يوظف تخصصيته في الارتفاع بمجتمعه قيمياً ومعرفياً وحضارياً إذ هو مجرد أداة تستعمل ثم ترمى..
وشتان الشتان بين مثقفين يمارسون الدجل الثقافي بدعمهم لممارسات غير ثقافية أو سكوتهم عنها وبين مثقفين لا يفصلون بين النظرية والممارسة ويقفون في وجه الطفيليات التي تتكاثر أو تزرع في المشهد الثقافي لتزيده مرضا وضعفاً وأكاد أقول نادي (كذا) الأدبي أنموذجاً.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة