قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أنشد الشاعر الكندي هذا البيت منذ 1500 عام، ردّده العرب من المحيط إلى الخليج، حفظه صغارهم قبل كبارهم وأثار جدل النحاة، أهي فاءٌ تسبق حومل أم الواو! وسطّروا عشرات الكتب عن هذين الحرفين، ووسط هذا الخلاف اللغوي نسوا أو تناسوا مواقع هذه الشواهد العظيمة من تاريخنا!
أين مواقع الدخول وحومل أو سقط اللوى؟ أو بصيغة أخرى هل هذه الأماكن معروفة ومتفق على وجودها؟
فمن المتداول بين علماء الجغرافيا التاريخية، أنّ هناك خلافاً شديداً حول موقعها، فمنهم من يقول إنها في اليمامة وآخر أشار إلى أنها حمى ضرية، بينما أكد رأي ثالث أنها في رمال الدهناء ومنهم من اتجه برأيه شمالاً فنقلها للشام!
والسؤال هل هذا الأمر خاص بمعلّقة امرئ القيس أم هو داء عام ابتلي به تاريخنا؟
فلطرفة بن العبد بيت من أشهر أبيات الأطلال قال فيه:
لِخَولة أطْلالٌ بِبُرقَة ثَهمَد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
علقت هذه الكلمات على أستار الكعبة وردد الرواة هذا البيت، إلا أنّ البرقة اختفت!!
وليت الأمر اقتصر على أشعارهم بل طال أيضاً معاركهم وأيامهم، فحروب داحس والغبراء ملأت الأرض ضجيجاً ولو سألت المواطن العربي لأخبرك أنّ داحس والغبراء هما فرسا رهان، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه من جديد أين جرى هذا السباق؟ وأين موقع هذه المعارك التي استمرت قرابة الأربعين عاماً! هل هي أماكن موجودة ومعروفة!! ولا ينتهي التساؤل عند هذا الحد؛ بل يستمر إلى مواقع معلقاتنا الشعرية والأماكن التي ذكرت بها بالعشرات في الجزيرة العربية.
هل يعقل أن ملامح ومشاهد مهمة من حضارتنا العربية سجلت ووصلتنا عبر هذه القصائد إلاّ أنها مجهولة المكان!!
لقد اتجه علماء عدة للبحث عن هذه الأماكن وبذلوا من أجلها الوقت والجهد، فقد برز العلماء العرب بعلم أبدعوا فيه يُدعى (علم البلدان)، ومن أشهر البلدانيين الذين كتبوا عن هذه الأماكن ياقوت الحموي، الهمذاني، البكري والأصمعي وغيرهم كثر، ثم حديثاً برز علماء في جزيرة العرب كالجاسر، العبودي، البليهد وغيرهم، وقد حددوا أماكنها واستدلوا بأدلّة أوردوها في كتبهم، لكن اختلفت المعلومات التي قدموها، فأغلب هذه الأسماء لها أكثر من موقع مختلف عليه!
وفي محاضرة لعالم الآثار الفرعونية العالمي زاهي حواس في مدينة الرياض في المتحف الوطني بمركز الملك عبد العزيز التاريخي، علّق الأمير سلطان بن سلمان حينها، بأنّ أحد أهم أهدافه؛ أن يخرج علماء الآثار من حفرهم لكي يتواصلوا مع الناس ويدلوهم على تاريخهم.
ولعل الدكتور عيد اليحيى قام بهذا الدور على خير وجه، وأخرج هذا العلم من أمهات الكتب إلى حلقات وثائقية تلفزيونية بعنوان: (على خطى العرب) جذبت المشاهد وأثارت اهتمامه، وبهذا وضَع اليحيى حجر الأساس! ولكن لكل عمل إنساني قصور، فرغم جمال الفكرة وحسن التنفيذ، إلا أن القصور وقع عندما جزم معد البرنامج وسلّم بالأماكن التي حققها، وكان الأولى أن يذكر الخلاف الواقع بين هذه الأماكن، وعدم اتفاق المحققين على مواقعها، بل إنّ الاختلاف في بعض الأماكن يصل إلى أكثر من ثلاثة وأربعة مواضع!
وهنا يأتي دور (البرامج الوثائقية التلفزيونية ) كما عوّدتنا دائماً بقدرتها الفائقة على تحري الحقيقة والوصول إلى سنام المعرفة، من خلال إنتاج عمل وثائقي يسلّط الضوء على هذه الأماكن بصحراء الجزيرة العربية، يناقش ويعرض رؤية وآراء العلماء حول اختلاف الأماكن وأدلتهم على ذلك، ويقارن بين تلك الأدلة ويستدل بآراء العلماء المعاصرين، من خلال مقابلات معهم للوصول إلى الحقيقة أو محاولة الوصول لها وتحقيقها، وحتى ترجيح بعض الآراء إن أمكن الترجيح، ومن أجدر من علماء الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وتحت إشرافهم للقيام بهذا المشروع، ولعل هذه هي إحدى الطرق لخروج علماء الآثار من حفرهم والتواصل مع الناس كما حلم الأمير سلطان بن سلمان!!
د.الوليد عبدالله العيدان - الرياض