الحديث عن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، حديث مألوف مكرور، فلا يذكر عصره إلا ويذكر، ولا يذكر التفسير إلا ويذكر، ولا تذكر السماحة إلا ويذكر، ولا يذكر علماء القصيم وعلماء نجد عامة إلا ويذكر، أما عنيزة فذكرها مقرون باسمه لا يكاد يفارقها، ومع ذلك التكرار والإعادة إلا أنه حديث محبب مرغوب، في كل وقفة على أخباره فائدة، ومع كل تأمل استنتاج، ومع كل حدث درس، وهبه الله من فضله العظيم ما بسط له به القبول... ولئلا تطول المقدمات أود أن أتحدث عن أثره في مجتمعه، وذلك الأثر لا بد أن نعرف مرتكزه وأساسه، وصوره وتمثلاته، وأجد - حقيقة - أن الأمور مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقاً، حتى يحتار الكاتب في ترتيب عناصرها ترتيبًا منهجيًّا.
(1)
(مصادر ثقافته)
تبوأ الشيخ عبد الرحمن رحمه الله مكانة عظيمة في مجتمعه، ولا أجد تفسيرًا لهذه المكانة إلا علمه وأخلاقه فقط، فأسرته من عامة الأسر الفاضلة، لم تتميز بدور سياسي ولا مالي ولا علمي قبله، ولم يكن رحمه الله من ذوي المال، ولا من ذوي السلطة، ولم يتولَّ قضاء، ولا وظيفة مطلقًا.
تلقى الشيخ تعليمه على عدد من العلماء، من أبرزهم:
1 - الشيخ صالح بن عثمان القاضي (1282 - 1351هـ) رحمه الله، الذي طلب العلم في مصر والحجاز سبع عشرة سنة.. وقد لازمه ملازمة تامة إلى أن توفي رحمه الله.
2 - الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر (1241 - 1338هـ) رحمه الله، الذي طلب العلم في الشام، ورحل إلى العراق، وأقام بها بضع سنين.
3 - الشيخ محمد الأمين بن عدي الشنقيطي (1289 - 1351هـ) رحمه الله، الذي طوَّف البلاد الإسلامية، وجاهد الإنكليز في البصرة، وأقام في عنيزة أربع سنين.
4 - الشيخ علي بن ناصر أبو وادي (1273 - 1361هـ) رحمه الله، الذي طلب علم الحديث في الهند، ورجع بإجازات في كتب السنة، وأجاز رهطاً من أهل بلده، منهم الشيخ.
(1)
5 - الشيخ عبد الله بن عايض (1249- 1322) رحمه الله، وكان قد طلب العلم في الحجاز ومصر.
6 - الشيخ محمد بن عبد الكريم الشبل. (. ... – 1343) رحمه الله، وكان قد رحل إلى الحجاز ومصر والعراق والشام لطلب العلم.
اجتمع في هؤلاء الشيوخ تنوع مصادر التلقي، حيث طلبوا العلم في مختلف البلاد، فهيأ الله له بهذا فوائد الرحلة من غير أن يرحل.
كما كان حريصاً على قراءة مجلة المنار، التي يصدرها الشيخ (محمد رشيد رضا) (1282 - 1354هـ) رحمه الله، في القاهرة، ويراسل صاحبها.. ومجلة (الفتح) التي يصدرها الشيخ (محب الدين الخطيب) (1303 - 1389هـ) رحمه الله، في القاهرة أيضاً...
(2)
إمامة الجامع والخطابة فيه
بلغ الشيخ منزلة من العلم في وقت متقدم من شبابه، وحظي بثقة مشايخه، بل وصلت شهرته خارج بلده، ومن ذلك ما حدث عام 1344 وقت فتح الحجاز، لما قدم إلى الملك عبد العزيز وفد من علماء الهند في موسم الحج، وقدموا عدداً من الأسئلة حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فدفعها الملك إلى الشيخ عبد الله بن بليهد، وقد عيّنه الملك مفتيًا للبلاد، فبعث ابن بليهد الأسئلة مع رجل من عتيبة إلى الشيخ ابن سعدي، وأمره أن يضعها بيده، ويأتي برده دون أن يعلم أحد، ففعل، ووصلت إلى علماء الهند، وسروا كثيرًا، واقتنعوا بها، فشكر الملك عبد العزيز الشيخ ابن بليهد، فأخبره أن المجيب هو ابن سعدي(2)!
وقد أنهى تفسيره الشهير في ذلك العام 1344، وعمره سبع وثلاثون سنة، كما كان شيخه صالح العثمان القاضي ينيبه في الإمامة في الجامع الكبير.
وبعد فترة من الوقت كان الشيخ عبد الرحمن عمدة البلد، وخصوصاً بعد وفاة شيخه صالح القاضي، فقد تولى القضاء بعده الشيخ عبد الله بن مانع من عام 1351 حتى 1360هـ، ثم تولى الشيخ ابن حسين بضعة أشهر فقط، فأما الشيخ ابن مانع فكان متورعاً تقياً، لم يقبل بالقضاء إلا بعد إلحاح الملك عبد العزيز وإمارة البلد، ويبدو أنه لم يكن مبرِّزًا في العلم، لما ترجم له الشيخ عبد الله البسام قال: (...ثم شرع في العلم على علماء بريدة، فأدرك لا سيما في علم التوحيد فله فيه معرفة جيدة، وله مشاركة لا بأس بها في الفقه والتفسير والحديث) (3).
بعد الشيخ ابن حسين عرض القضاء على الشيخ ابن سعدي، فرفض رفضًا قاطعًا، وكان الشيخ في ذلك الوقت قد تبوأ المكانة الكبرى، وصار هو المرجع في عنيزة، وكسب ثقة الناس جميعًا.
وكان يصلي إمامًا في الجامع إثر خلو منصب القضاء.
عرض القضاء على الشيخ عبد الرحمن بن عودان، وهو من أهل شقراء، وخُيّر بين قضاء عنيزة وقضاء الأحساء، وكان في عنيزة رجل من أهل شقراء، من أسرة (الطويل)، نسيت اسمه، فاستشاره الشيخ ابن عودان، فأشار عليه الطويل إشارة كانت في غاية الدقة، قال له: في عنيزة أرض اثنين، ولن ترى بعد ذلك سوءًا، أرض الأمير، لترضى عليك السلطة، وأرض الشيخ ابن سعدي يرضى عليك الناس وترضى عليك السلطة!
فقبل الشيخ ابن عودان قضاء عنيزة، والتزم بهذه النصيحة، ومن ثمرات هذا الالتزام أن تنازل للشيخ ابن سعدي في إمامة الجامع، وتنازل الشيخ ابن سعدي عن الأوقاف التي للإمام؛ لأنها هي مصدر الرزق الوحيد للقاضي؛ لأن العرف يقضي بأن إمام الجامع هو قاضي البلد.
فكان الشيخ ابن سعدي وابن عودان أول من فصل إمامة الجامع عن قضاء البلد.
هنا يتبين لنا جليًّا أثر ابن سعدي في المجتمع، وسبق أن ذكرت من قبل أن هذه المكانة لا سبب لها غير العلم والخلق الكريم.
التزم الشيخ ابن عودان بنصيحة الطويل عشر سنوات تقريبًا، ثم حصل خلاف أدَّى إلى أن ينقل عن قضاء عنيزة، جاء في فتح الجليل بترجمة الشيخ ابن عقيل: (في شوال 1370 حصل سوء تفاهم بين أمير عنيزة والشيخ ابن سعدي والجماعة من جهة، وبين قاضي عنيزة الشيخ عبد الرحمن بن عودان من جهة أخرى، فطلب الأمير من الملك تغيير القاضي، قال الشيخ ابن عقيل: (ونظرًا لمقام أمراء عنيزة آل سليم عند الملك عبد العزيز أبرق لهم بأننا نقلنا الشيخ عنكم، واختاروا أحد ثلاثة مشايخ، ابن سعدي، سليمان بن عبيد، عبد الله بن عقيل، فاختاروا عبد الله بن عقيل) (4).
(3)
رسالة يأجوج ومأجوج
قد أشرت فيما سبق إلى التنوع في مصادر ثقافة الشيخ، وقد أثمر ذلك سعة في أفقه، وبعدًا في نظره، حتى أفتى بشيء على سبيل الافتراض بناء على المعطيات العلمية التي وصل إليها العلم في وقته، كالفتوى بنقل الأعضاء، ونحوها.
ورسالة يأجوج ومأجوج واحدة من آثار ذلك، فقد كتب رسالة بيَّن فيها أن يأجوج ومأجوج موجودون الآن؛ لأن الأرض قد اكتشفت ولم يبق منها شيء مجهول، وأنّ سدهم قد اندك فعلاً، فخرجوا إلى الناس، واختلطوا بهم، إلا أن خروجهم في آخر الزمان لم يحن بعد، وليس في الكتاب أو السنة دليل على أن الخروج مرة واحدة، بل إن في الحديث الصحيح ما يدل على فتح الردم، في قوله صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مقدار كذا.
إلى غير ذلك مما استدل به رحمه الله، معتمدًا على النص الشرعي، وعلم الجغرافيا وما توصل إليه العلم الحديث من الاكتشافات.
قرر الشيخ هذا التقرير في درس التفسير، فتناقله الناس، فانبرى ثلاثة نفر إلى تصعيد الأمر، ورفعه إلى الشيخ عمر بن سليم قاضي بريدة، فطلب منهم الشيخ ابن سليم التأكد، فأتوا الشيخ عبد الرحمن بلطف وطلبوا منه أن يحرر لهم ما قال، ففعل رحمه الله، فسلموها للشيخ عمر، وكتب بها إلى الملك عبد العزيز رحمه الله، فأبرق الملك بطلب حضور الشيخ إلى الرياض.
اضطرب الناس لهذا الأمر، واجتمع أمير عنيزة ووجهاء البلد بالشيخ وعرضوا عليه أن يطلبوا من الملك إعفاءه عن الحضور، فرفض الشيخ، وقال لعل في الأمر خيرًا، وفعلاً ذهب الشيخ بسيارة أمير عنيزة في ذلك الوقت، ورفض أن يصحبه أحد.
.. يتبع
د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - جامعة القصيم
fareedzam@hotmail.com