جرت العادة في إهداء الكتب عند كثير من العلماء والمثقفين والكتّاب منذ ظهور الصحافة العلمية والثقافية بشكل عام أن يكون الإهداء على سبيل التقدير.. أو أن يكون على سبيل الملاحظة والرأي أو أن يكون على سبيل الرغبة في الإطراء والعرض والبيان, أو على سبيل كتابة المقدمة أو أن يكون الإهداء من أجل تحقيق الآثار والبيان الصحيح منها والضعيف وكذلك حقيقة الاجتهاد العلمي, هذه غالب أسباب الإهداء.
وسوف يتبيّن من النماذج الآتية شيء ليس بالهين لاسيما ما كان على سبيل الإطراء, وهذا النوع شائع جداً بين كثير من العلماء والأدباء واللغويين وكتّاب الزوايا والمشكلة في هذا النوع أو إن شئت قل العيب أن بعض من يطالع العرض لهذا الكتاب أو ذاك قد يقبل ما قيل فيه مدحاً وثناءً على مصنفيه أو جامعيه فيصيبه العمى عن عيوبه ومثالبه لاسيما أصول الأخطاء التي يقع من يحرر ويكتب ويعرض فيها.
ومن هنا يزداد أو قد يزداد غرور المصنف وإنما يقع اللوم كله على من عرضه وكتب عنه مدحاً وإطراءً.
ودوري كناقد علمي أن أبين بعض النماذج لتحرير العلم والثقافة مما قد يؤخّر مسارها للوصول إلى التجديد والإضافات غير المسبوقة لاسيما ونحن في وقت أشبه ما يكون بالقرية الواحدة.
فخذ مثلاً هذا النموذج: [أهداني أستاذي كتابه (...) وقد استعرضته كعادتي لكن ما أوقفني هو ندرة ما قد أورده أستاذنا الجليل من آراء جيدة تستحق الإشادة والتنويه] و[قد كان أستاذنا القدير يدرسنا أيام الطلب وكان بمثابة الأب والمعلم لا نخالفه في شيء].
ماذا ننتظر من هذا العرض؟ وماذا نستفيد؟ وماذا نأخذ؟
الجواب: لا شيء, نعم لا شيء فكيف مثل هذا يكون؟
وخذ مثلاً آخر: [هذا كتاب صدر عن دار (.....) للناقد الكبير (.....) وحرّي به أن يكون فتحاً جيداً للآلية النقدية مع أنه عُرف عنه سعة الاطلاع على المدارس النقدية المعاصرة, وهذا الكتاب قد آتى بما لا يدع شكاً أنه لا يحتاج إلى دراسة ولا تعقيب].
ماذا يريد هذا العارض لهذا الكتاب؟ هذا العارض الذي خلط بين النقد وبين بذل الرأي فقط كان بعيداً كل البعد عن تحرير وجهة نظر سديدة نستفيد منها, ويستفيد منها صاحب الكتاب.
وبهذا تختلط عند الناس كثير من المفاهيم والآراء، بل ومن نافلة القول فلعل بعض من تُعرض كتبه يعطَى هالة ليست له, وهذا سبب وجيه لغياب التأصيل والتقعيد مما يؤدي إلى طغيان الأساليب الإنشائية ومن هنا تسقط الثقافة شيئاً فشيئاً ويتضاءل العلم ومن هنا يضيع أمر العلم أيضاً بالنقد كما يشتبه النقد الموهوب غير الموجود بالأساليب الخطابية المثيرة والمعاندة, وهذا معلوم من واقع الحال بالضرورة, فما عليك إلا القراءة بتدبر وعمق صافيين متجردين لتجد أنه لا يمكن الرقم على الماء كما داء في أمثال الأقدمين.
وهاك نموذجاً آخر: [ليس ابن مالك إلا قد أخذ من غيره دون التنويه إلى هذا, وليس لابن مالك في ألفيته النحوية إلا العرض فقط].
هذا كلام جاء على علاته وبجرأة شديدة وكأن بينه وبين الإمام ابن مالك - رحمه الله تعالى - ما بينه وبينه من حسد وسوء قاله بينما بينهما قرون طوال, لكن أتدري لماذا قال هذا؟
لعلي أدري من باب التحليل النفسي السريري لعلي أدري.
لقد كتب هذا ونشره من باب الادعاء والمعرفة وجلب النظر ليس إلا, وإلا فهناك في آليات الطرح الجيد النزيه, هناك فرق بين السطو والاقتباس, وبين السطو وتوارد الخواطر, وبين السطو وعموم المفهوم في عموم النحو التي لا بد نعم لا بد في إيرادها, وخذ كذلك [لقد كان ابن مالك ذكياً حينما صنف ألفيته].
يريد هذا الكاتب أن يكون ذكياً في كيفية السطو وأنه ذو دهاء وغاب عنه أنه يوجد اليوم فحول كبار أجلّ منه في ترجمة ابن مالك, حياته وشيوخه وتلامذته ورحلاته وأصول ألفيته لم يتعرضوا لما تعرض هو له, بل بعضهم ضرب كفاً بكف على جرأة هذا الحاصل بسبب فقدان أصول الطرح الأخلاقي والأدبي والعملي.
وهذا نموذج عن (معاجم اللغة) فنقرأ مثلاً هذا الكلام: [ابن منظور لا أحد يشك في مقدرته على استيعاب ما يريد أن يبينه معناه من المفردات في (اللسان) وهو ينقل عن سواه ولا يحيل إلى غيره].
ومثل : [ففي (لسان العرب) محطات لم يشر إليها أنه نقلها بينما هو قد نقل من غيره].
هذا وذاك كلام دال جزماً على أن هذا الإمام قد سطا لكنه سطو ذكي, إذ إنه أغفل المصدر الذي أخذ عنه.
لست هنا أبين العوار كناقد علمي يقعّد ويؤصّل إنما فقط لأبيّن العجلة والتألّي والتعلّي ذلك أن هذا الناقد عفواً, الكاتب لم يدلّل ولم يعلّل ولم يستشهد ولم يفسر إنما جرأة وإنشاء لا محيص.
وهذا مثال آخر يقوم ولا يقعد على الإطراء المقيت خذ ما جاء: [أهداني د (.....) وهو أحد تلامذتي الذين درسوا عليّ أهداني نسخة من كتابه (.....) بعد طباعته أخيراً فكأني به قد سار على منهج وطريقة (السيرافي) في شرحه لكتاب سيبويه لكنه كحقيقة علمية قد جاوزه كثيراً وتعدى (السيرافي)].
كل هذا الكلام جاء في كتابة مقال شبه أسبوعي قد تمت الحروف فيه إلى قرابة سبعمائة حرف, فكيف يكون هذا؟
لست أعلم أحداً أن مثل هذا الباحث قد جاوز السيرافي كثيراً ومن المعلوم في أساسيات النقد العلمي عند المحدثين والمثقفين واللغويين أن من قواعد النقد أصل لا بد منه وهو: حسن التصور وحسن التصرف ومساواة الناقد للأمر المنتقد تساوي الناقد والمنقود في الدرجة وهذا ليس وجوداً.
كما أنه ولا أقول (قد)، بل أجزم الجزم أنه يحتاج إلى دراسة منضبطة عقلاً وروية وأمثلة وسعة بال فطن ولا يكون ثمة مجاملة أو كما يقول رفع المعنوية أرأيتم كيف إذا؟
بهذا يذهب العلم رويداً رويداً وتذهب الأدلة الصحيحة رويداً رويداً ويذهب النقد الموهوب رويداً رويداً, ومن هنا قد يخال الكاتب نفسه أنه هو هو إذا لم يقم أحد ببيان الحق فيما كتب أو فيما قال في صحيفة أو مجله ونادٍ أدبي أو ندوة أو مؤتمر.
ويظن الآخر المكتوب عنه الذي قيل عنه إنه تجاوز السيرافي كثيراً يظن نفسه حقيقاً أنه كذلك فيتورم فيقع لا شعورياً بمصيدة حيل النفس الأمّارة بالسوء, كما يقع بمصيدة الهواء وعمى البال سيان.
ولنأخذ هذا النموذج: [ويحسن به أن يتوقف عن الكتابة لئلا يغتر به القراء فهو يخلط ولا يدري] فقد كان يمكن جداً أن يقول إن كان محقاً (فلعله لعله بحسن طريقته في الكتابة) أو (لعله يترك هذا المجال حتي يتورى منه).
أليس هذا حقاً أن يكته بدل هذه الوصاية.
هذه نماذج تشير أول ما تشير إليه إلى ضرورة تصحيح العقل العلمي وتصحيح العقل الثقافي وتصحيح العقل النقدي.
- الرياض