الحب أصبح خبزًا غالي الثمن، نادر الوجود؛ لأن ما يعرض هذه الأيام قد غُلف بالمصالح.
عندما نتحدث عن الحب لا نتحدث عنه بتلك الأشواق والحنين إلا في حالة أننا أصبحنا نفتقد وطنًا من حبّ صادق طاهر.
عندما نتحدث عن الحب أول ما نتخيله هو قلب ينبض باستمرار، ودم يتدفق، ويُحيي العروقَ، ويدفعنا للحياة. وعندما نشتاق لمن نحب نتسمّر، نتذكّر مواقف من أحببنا، وكأننا نتغذى على قوتٍ بعد جوع، ونرتوي بعد عطش.
عندما تسألونني كيف تحب الأنثى بضم التاء وكسر الحاء فإنني أترك الإجابة لها، ولكن عندما تسألونني كيف تحب هي بضم التاء وفتح الحاء فسأجيبكم: عندما تكون كوسمية.
خالتي، وما أدراك من هي خالتي.. لتعرفوا كيف كانت وطنًا يحوي ويحن، يعطي ويهب بدون مقابل.
إنها وطن.. إنها وسمية.
كتب الكثير، وتحدثوا عن غزير علمها، وجليل إنتاجها، وكريم تعاملها، وأصالة بحثها، وتعدد خدماتها في تخصصها وغيره فيما تولت من أعمال ومناصب.
سِجلها حافل؛ فلا حاجة للشهود، وقلمها لما يجف؛ فلا حاجة لإثبات. ولكن يبقى أن أتحدث أنا عنها، أتحدث عن زوجة خالي الحنون وسمية. ولكنني أصاب بحيرة كلما جمعت أحرفي، فيمَ أبدأ حديثي؟ عن وسمية الخالة؟ والأخت؟ أم عن زوجة الابن الواصلة الودود؟ أم عن الصديقة؟ أم عن السيدة المتواضعة التي يبكيني أحيانًا تقديرها لذكرياتي؟
أضع بين أيديكم بعضًا من قصاصات ذكرياتي؛ لعلها تكمل لوحة فنية، رسمتها خالتي على مر السنين، أو تكمل نسجًا نسجته خالتي لقطعة نادرة الوجود، اسمها وسمية.
القصاصة الأولى :
كنت لما أبلغ السابعة بعد، لكني كنت أحترق شوقًا للوصول لبيت جدي سليمان؛ فزوجة خالي الخالة وسمية وصلت، وسيجتمع الجميع لتناول العشاء هناك. ها هي تجلس هناك، تتحلق مع خالتي حصة وبنياتها، تنقي صحن الأرز قبل غسله، وما إن رأتني حتى طلبت من صبيرة، تلك الخادمة اللطيفة، أن تسلمنا هدايانا التي انتقتها بعناية. أسجِّل في قاموسي معنى خالتي وسمية زوجة خالي تعني: اجتماعاً، فرحة، شوقاً، واشتياقاً، هدية، صلة برّ.. فهل رسمت زوجات الخال أو العم المعاني نفسها في نفوس أبناء هذا اليوم؟
القصاصة الثانية :
عدت من مدرستي يومًا لأجد خالتي عند أمي، وقد أعدت كريمة فاخرة، لا أنسى طعمها رغم مرور أكثر من ثلاثين عامًا، إلا أنني بدأت أدرك معنى آخر للقب خالتي وسمية... زوجة أخ ودود، تجتهد لكل أهل زوجها، لا لشيء سوى أنها أحبت خالي وأسرته معًا.
القصاصة الثالثة :
في مواسم المناسبات كانت خالتي تدعونا لنسهر وننام في بيتهم، وكنا نحن المراهقات نفرح، خاصة أنها كانت تمتعنا بكل شيء جديد وغريب؛ لما لها من أسلوب عجيب في جذب كل الأعمار. سجلت لها معنى آخر في قاموسي، هو أن خالتي وسمية تعني لي: مرونة، بث ثقة، ثقافة، وفناً راقياً في التعامل.
ولكن هل نستطيع أن نتعامل الآن مع المراهقين بمثل تعاملها؟ لو كان ذلك لنعم مجتمعنا بجيل أكثر نضوجاً وثقة ودافعية للرقي.
القصاصة الرابعة:
قبل عشرين سنة كنت أحضر فعالية ثقافية في المذنب، على شرف سمو الأميرة نورة بنت محمد، وقد شاركت خالتي بالحضور لحبّها للأميرة نورة وللمذنب وأهلها. وعندما توجه الضيوف لصالة الطعام استأذنت تاركة الجميع لتزور جدتي رغم ضيق الوقت وإجهاد السفر، وكانت أمي عائشة آنذاك قد فقدت القدرة على النطق، وأنهكها فَقْد الذاكرة والمرض. العجيب أنني ما زلت أذكر تعلق أنامل جدتي بكفي خالتي، ونظرات الحب بينهما كانت تنطق العيون دون صوت، فإيماء جدتي تقول لها: اشتقت لك. ودموع خالتي تجيب: وأنا أكثر.
يا ربّاه، أين نحن من هذا الحب وهذه العلاقة المتينة رغم مشاغل الحياة ووهن العمر؟
أضفتُ بعدها معنى آخر في قاموسي لزوجه الابن: وسمية تعني صدق التعامل، طهر النية، غراس حب أصيل، ووفاء نادراً. يا تُرى، أتساءل أنا دائمًا: هل سأكون يومًا كما كانت؟ ولو أن كل زوجة ابن أحبت أم زوجها كحب الأم لها لعشنا في أعشاش من الأمن الأسري وهدوء وسكينة، تغمر كل من اقترب من أعشاشنا، ولم نعد بحاجة لإصلاح كسر، أو ترقيع شق، أو إسدال ستائر النسيان على توافه المواقف.
القصاصة الخامسة:
مرت الحياة سريعًا، وتزوجتُ، وزرتها يومًا، وبعد أن ارتويت من حديثها الماتع، ودرر توجيهاتها التربوية في حسن إدارة الحياة، أشارت إلى صينية مفضضة متواضعة، تستقر قهوتنا عليها، وقالت لي: «أنا أحب هذه الصينية؛ لأنها هدية من جدتك فاطمة، أهدتني إياها في أول لقاء بيننا»، تعني جدتي لوالدي رحمها الله. أتدرون ماذا دونت لها في قاموسي؟ دونت لها: خالتي وسمية وفاء رغم الرحيل، حب صادق نبيل لكل من قابلها، تواضع عجيب رغم الفوارق الثقافية.
هذه بعض من قصاصات قاموسي عن خالتي وسمية الإنسانة الراقية، الإنسانة المتواضعة.
كثير من الناس، وإن سبق اسمه بعض الألقاب والحروف، تجده يضع حدًّا ومكانة له أمام نفسه وأمام الناس، وتصيبه أمراض الفوقية، وهذا ما لم نلحظه من خالتي، ولن نلحظه. كنا لا نعرف إلا ظاهرة من ظواهر الحب النادر، كانت حريصة على أن تكون أنثى تُحِب وتُحَب في آن، فكانت هي وسمية.
خالتي وسمية
هناك قصاصات كثيرة، انتقيت لك منها ما أسعفني به وقتي، بذور الحب نرعاها وترعانا، فمنها ما أظلنا كشجرتك، ومنها ما نرعاه، ونحن نأمل الخير بشجرة مباركة مثلك، ضربت جذورها في الأرض، ورفعت أغصانها للسماء.. هنيئًا لك يا خالة، وهنيئًا لنا وجود مثل وجودك، نلوذ بذكرياتنا معك كلما لفنا حنين لوطن من حب.
حنان بنت عبد العزيز الخميس - المذنب