أصدرت د. سهام العبودي مجموعتها القصصية (الهجرة السرية إلى الأشياء) التي تضم سبعة نصوص من القصة القصيرة، بعد مجموعتيها السابقتين: (خيط ضوء يستدق، ظل الفراغ) اللتين كان اهتمامهما غالباً بالقصة القصيرة جداً وخصوصاً في المجموعة الثانية.
(الهجرة السرية إلى الأشياء) مجموعة نصوص قصصية تتميز بالتفكير والتأمل العميقين، ومن ثم فهي تبحث عن متلق يسطيع التماهي مع عوالمها.
ونصوص هذه المجموعة في مجملها تهتم باستبطان الشخصيات، استبطان ذواتها واستبطان علاقاتها بالعالم المحيط بها، فالقصة فيها هي قصة الشخصية في المقام الأول. وهي في اختيارها لشخصياتها، تتعمد النماذج الغريبة غير المألوفة، ففي (الهجرة السرية إلى الأشياء) تقدّم شخصية إنسان دقيق حد القلق والوسوسة، ينفذ في عمق الأشياء المادية، ويستفزه أي خلل في تفاصيلها الصغيرة، كرؤيته خيطاً يتدلى من قطعة سجاد مثلاً، حيث يظل يعمل حتى يخلص الشيء المادي من هذا الخلل. وفي (ما تكتبه الظلمة. . ما يحجبه النور) تتسلّل القاصة إلى نفسية الأعمى، وكيفية توظيفه حواسه الأخرى بشكل مذهل. وفي (سطر الخلاص) تستبطن أعماق شخص يعيش الموت المعنوي بشكل متوتر متأزم قلق.. وهكذا..
ونصوصها تتخذ بعداً إنسانياً شاملاً،حيث لا نجد حضوراً للبيئة المحلية، باستثناء نصين فقط، فهي ترسم شخصياتها وتعبّر عن أفكارها بشكل إنساني مجرد، لا تحده بيئة ولا زمن، بل تتوارى فيه طبيعة الأنثى داخلها، فلا نجد الأنثى المأزومة كثيرة الشكوى والبكاء كما هو متعارف عليه في السرد النسوي، بل نجد رؤى إنسانية ناضجة متأملة مفكرة. وقد أثر استبطان الشخصيات على بناء النص وعلى طبيعة السرد وعلى اللغة: فهي حيث تجعل شخصياتها متأملة مفكرة، بصمت وخشوع، تقلص مساحة الحوار، وتبرز أسلوب الحوار الداخلي بين الشخصية وذاتها بديلاً عنه.
وهذا نفسه أوجد أهمية لأسلوب السرد الذاتي الذي سيطر على المجموعة، بهذه الشخصيات المنسلة إلى الداخل، المتأملة، المتأزمة مع العالم. وهذه الشخصيات المتأملة تستغرق في التفاصيل الصغيرة، ومن ثم كان الوصف الدقيق للمكان ومفرداته، والدخول في عمق الأشياء المادية وأنسنة الأشياء، وهذا الملمح مهم جداً، وشكل محوراً مهماً في المجموعة، كما يقول العنوان: (الهجرة السرية إلى الأشياء)، ولنتأمل هذه الصور:
«رأيت في منامي الشموع الأربع الباقية تبكي ضوءًا، كان الضوء ينهمر منها إلى الأسفل مثل الشلال». «كنت على يقين بأن السجادة تكره عدم استواء غرتيها».
ومن ثم، ونتيجة لهذا الغوص في عمق الذات والتأمل في علاقة الذات بالعالم، ظهرت الجمل المتأملة التي تأخذ طابع الحكم: «في كل حيازة فقد»، «الفلسفة هي حبال العاجزين».. ولكن، ومع هذا البعد الفكري المتأمل، لم تغب اللغة الشعرية، بل كانت لغة القاصة ذات بعد جمالي مؤثّر وظّفت فيه المجاز والصورة والرمز، يتبيّن هذا في العناوين المركبة، الخصبة بالصورة: «الهجرة السرية إلى الأشياء، ما تكتبه الظلمة.. ما يحجبه النور، سطر الخلاص، من يقرأ الشمس...».
فضلاً عن اللغة الشعرية المنبثة في أرجاء النصوص: «الضوء النابت من عتمتي، ذراعانا جديلة توحدنا في الممر، تنفي آلامك إلى مدائن الأشياء...».
وختاماً، نحن إزاء نصوص ناضجة وأدوات ناضجة، ودهشة ترتسم في أفق كل نص، في الرؤية والشخصية واللغة.
د. دوش بنت فلاح الدوسري - أستاذ الأدب والنقد المساعد -جامعة الاميرة نورة بنت عبد الرحمن – الرياض