الثقافية - أحمد الحذيفي - الرياض:
رأت الكاتبة الصحفية وعضو مجلس إدارة النادي الأدبي بالدمام سكينة المشيخص أن المجتمع لم يعد يعتمد على المؤسسات الثقافية كثيراً في ظل انتشار وسائط الاتصال والتقنيات الحديثة حيث يمكن للجميع أخذ حصتهم المعرفية والثقافية وتبادل الرأي بشأنها، في وقت لم تعد فيه المؤسسات الثقافية تنفتح بصورة منهجية ومواكبة للاطلاع بدورها الثقافي، وكأن الزمن تجاوزها. جاء ذلك في حوار أجرته (الجزيرة) مع المشيخص التي أكدت أن المرأة في المملكة أفضل من الرجل في الموهبة، كما أن الكتابة كمن يمشي على الصراط فإلى نص الحوار:
* الكتابة عمل انقلابي ومشي على صراط النقد والحقيقة.. كيف اتجهت إليها؟
- هي بالتأكيد ليست بهذا المفهوم الخشن، فالكلمة سلاح وأمانة، وهي قبل ذلك هبة وموهبة، ولعل أثقل ما فيها النظر إليها على أنها أمانة ثقيلة تتطلب احتمالا كثيرا مما لا يحتمل، وقد يكون المشي على صراط الحقيقة مهماً وضرورياً لتقويم مسارات وتغيير اتجاهات للأفضل، ولذلك لا يمكن النظر إلى الكتابة من منظور واحد قد يبدو مخيفا أو مرعبا، خوفا من ردة فعل انتقادية ورافضة لطرح ما، أو خوفا من سلطة وغير ذلك، فذلك أيضا طبيعي، ولكن بصدق كلما كانت هناك موضوعية في أي طرح فذلك كفيل بتوفير ضمانات وهو في حد ذاته مشي على الصراط بحيث لا يزل كاتب أو ينحرف عن الحقيقة ولي عنقها
كتاب «شواهد لا مشاهد.... بعيون أنثى» يرصد كثيرا من المتغيرات فيما يتعلق بحركة العقل المعاصر.. هل استوعب كل ما يجري من حولنا؟
- استيعاب كل شيء محال، وكما ذكرت فإن متابعة العقل الاجتماعي العربي تفرض مواكبة سلسلة من المتغيرات الحيوية، لأن منطقتنا العربية تتحرك بصورة دراماتيكية في التفاعل من داخلها ومع العالم المحيط بها. ذلك يشكل صورة ذهنية غير مستقرة لتوصيف الأحداث لأن النتائج التي تتداعى من تلك الأحداث تقدم وضعاً ظرفياً لا يكفي أي باحث أو راصد لتكوين نتيجة نهائية وحاسمة للشكل النهائي للحدث المتغير أصلاً. ولكن الاستقراء يكفي لتخيّل ما يمكن أن تتجه به الريح.
والمشهد العقلي يفرض عددا من المعطيات التي ينبغي أن نتدبرها ونعيها، فالعقل الاجتماعي العربي هو الأساس، في الواقع، لكل متغير ثقافي أو سياسي وبالتالي وبصورة نسبية، اقتصادي. والتحولات الأخيرة تعزز حضور ذلك العقل وتأثيره على السلوك الحضاري المعاصر إلى جانب التأثير على العقل السياسي والأخلاقي. وهي حزمة متكاملة في دراسة الوقائع ولا بد من استقصائها بصورة تعادل موضوعية البحث أو الدراسة العميقة لجوهر المتغيرات.
متغيرات المشهد الثقافي الراهن تعصف بمجريات البيروقراطية في الممارسة الإدارية.. كيف يمكن لمجتمع أن يقود ممارسته الثقافية بمعزل عن مؤسساته؟
- الثقافة عملية دينامية حيوية، لا تثبت على حال واحدة من واقع مواكبتها لتطورات الوعي والعقل الاجتماعي، فهي تعطي وتأخذ، وهذه التبادلية هي التي تعكس مضامين الحالة الثقافية، ولذلك ليس من السهل الحديث عن متغير أو مجموعة متغيرات واحدة في أي مشهد ثقافي، ودون التغير فذلك يعني جمود الحالة الثقافية وعدم تفاعلها مع الواقع وأداء النخبة الثقافية وحركة المجتمع، ولكن بصورة إجمالية هناك نوع من الانبعاث الثقافي في وعي الناس وطريقة تعاطيهم مع ما حولهم، فدون الوعي لا يمكن لمجتمع أن يتطور ويتجه رأسيا نحو غاياته وطموحاته في المجالات المختلفة، وللواقع نفسه دور أكبر في الحافز والإلهام والارتقاء بفكر وفهم الناس لما حولهم، فقد تراجعت ثقافة التلقين وحلّت محلها ثقافة التفكير وإعمال العقل.
* الحديث عن دور للمؤسسات الثقافية في الواقع الاجتماعي يعني جموداً في أدائها.. هل تجاوزنا مرحلة المؤسسة الثقافية؟
- يفترض أن يكون لها دور، بل وينبغي لها ذلك، ولكن لم يعد المجتمع يعتمد عليها كثيراً في ظل انتشار وسائط الاتصال والتقنيات الحديثة حيث يمكن للجميع أخذ حصتهم المعرفية والثقافية وتبادل الرأي بشأنها، في وقت لم تعد فيه المؤسسات الثقافية تنفتح بصورة منهجية ومواكبة للاطلاع بدورها الثقافي، وكأن الزمن تجاوزها، وهي في الواقع التي جمدت بسبب البيروقراطية وتحديد دور المثقفين، كما أنه لا يتوفر لها التفاعل الضروري مع الوسط الاجتماعي، وبالتالي يتجه الأفراد إلى الإعلام الجديد للحصول على ذلك التفاعل، فالفرد الذي يبحث عن نصيبه الثقافي أو الرأي المهم يجده هناك، وكذلك المثقف الذي يقذف نفسه في وسط حشود من متابعي ذلك الإعلام فيقدم نفسه ومنجزه دون وسائط أو و ضع في قائمة انتظار تصنعها المؤسسات الثقافية.
الجدل الثقافي قد يتحوّل إلى حالة خشنة تنتفي معها روح الثقافة.. كيف يمكن للمثقف أن ينجو من هذا الفخ؟
- الحوار والجدل من سمات ومعطيات العملية الثقافية، وذلك مهم ومطلوب لأن النقاش يثري الفكر ويسمح بالتعبير عنه، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بعيدا عن الجدل الخشن والسفسطائي الذي لا يخدم قضية أو يتحول إلى أسلوب ذاتي يركز على الأفراد دون القضايا، فحينها ستظهر لغة غير مهذبة حين يتصاعد الجدل في دائرة ضيقة تضيق معها النفوس بالحوار وتتواضع لغته بما يمكن من إساءة فهمه، ولذلك حين يكون موضوع النقاش قضايا وليس أفرادا أو أشياء فهو ظاهرة صحية مطلوبة، بحيث تفيد النخبة والمتلقين والمشهد الثقافي بشكل عام.
كيف يمكن للثقافة أن تحرر العقل وتمنحه القوة الدافعة لتطوير الواقع وقراءة المستقبل بشفافية؟
- الثقافة حصاد واكتساب يعنى بالإدراك، وهي المكون الإنساني الأساسي الذي يحدد اتجاهات الفرد وميوله الفكرية، فالتثقيف عملية ديناميكية ترتبط بتقويم المكتسبات العقلية والمعرفية، ولذلك فإنه من عوامل الذات التي تحدد إلى حد كبير السلوك الإنساني ومدى تحضره في الحالة الثقافية المرتفعة أو تخلفه في الحالة المتواضعة، وطالما هناك اكتساب معرفي من البيئة المحيطة أو الارتباط بالعالم الخارجي فذلك يعني تجديدا حيويا لتلك المكتسبات ما يضعنا عند أول أعتاب الحداثة التي تعتمل ذاتياً ومن ثم مجتمعيا من واقع إبداعات وابتكارات الأفراد والمجتمعات الإنسانية.
الرؤية الحالية في العالم المعاصر ابتعدت عن المسار الذاتي إلى نطاق أشمل يستوعب الذات كأداة في تطوير وابتكار المظاهر الحضارية والمدنية فيما يعرف بالعولمة التي تذوب معها الثقافات المحلية والهويات الوطنية وتأخذ العالم في تيار جمعي وإن لم يكن متجانساً ولكن متفق إلى حد ما على أسس وقواعد أساسية من صميم الحقوق الإنسانية الأولية المقررة في الأدبيات التنظيمية الدولية رغم المخاطر المؤكدة لذلك على الثقافات والهويات الوطنية.
* الوعي الاجتماعي من المطلوبات الضرورية لتطور المجتمعات.. كيف يمكن توظيفه لصالح أي عملية لتطوير المجتمع؟
- بلا شك يتطور هذا الوعي بصورة متصاعدة، وتنمو لدى الأفراد أفكار جميلة وناضجة حول الواقع ومآلاته، ولعل الوسائط التقنية الحديثة والإعلام الجديد أسهم كثيرا في تحقيق التفاعل الكيميائي لفكر الإنسان، ولذلك فإن أفضل ما نحصل عليه في ظل هذا التطور التقني هو ارتقاء الوعي الاجتماعي وخروجه من دائرة ونطاق النمطية، لقد أصبح هناك نقاش جاد وهادف وبناء حول القضايا أكثر منه في نطاقات ذاتية ضيقة تدور حول نفسها، وذلك هو المطلوب حتى الآن وبمزيد من التلاقح وتبادل الآراء والنقاشات المفتوحة سيتطور هذا الوعي أكثر ويكتسب مزيدا من القناعات الإيجابية بمجهود ذاتي كامل.
* مع هذه التحولات الاجتماعية وتطور الجرعات المعرفية للفرد.. هل من دور للمرأة أكبر حسما لقضايا التنمية والمشاركة؟
- ذلك طبيعي، فلا ثابت في الوجود إلا المتغير، ولم يعد هناك حيز كبير لمعادلة الجندر، فالمرأة في مجتمعاتنا العربية بصورة عامة، وفي المملكة خاصة، تمتلك من المواهب والقدرات ما يفوق الرجل كثيرا، ولكن تعطيل دورها جاء بناء على إشكالية الجندر والتمييز المجتمعي، ما أدى إلى تعطيل دورها ومشاركتها، ولكنها الآن أكثر اكتمالا في طبيعة دورها وأهميتها، فالمعرفة هي السلاح الذي يؤسس لعقل اجتماعي يستوعبها ويسمح لها بالتعبير وطرح قضاياها ومعالجتها من منظورها وفكرها ورؤيتها، لقد تغير الزمن واتجاه الريح، ولم تعد هناك إمكانية للتعطيل أو التثبيط، وهي في طريقها لنيل كثير من الاستحقاقات التي تجعلها مشاركة فاعلة وناضجة في حركة البناء والعطاء في المجالات المختلفة
* سؤال الهوية من الأسئلة الإنسانية العميقة التي تحتاج لمزيد من التفكيك.. كيف يمكن تأطير وحسم جدل الهوية؟
- الهوية من القواعد الإنسانية الفطرية، وهي قد تكون وطنية أو عقدية أو اثنية أو اجتماعية، ولذلك فإن حسم الجدل إنما يتم في إطار البحث عن هوية جامعة أكثر منه فردية، فالإنسان يحسم هويته بحسب رؤيته وميوله واتجاهاته الذاتية، أي أنها في هذا السياق مسألة خاصة نسبياً، ولكن في إطار الهوية الجامعة فهي إنما يؤطرها وطن أو معتقد وخلافه، وفي كل الأحوال هي عنوان للماهية وانتماء الفرد وإحساسه القوي بولائه إليه، وهي لها بعدها الثقافي الذي ينسجها ويجعل الفرد متأقلما معها ومحافظا عليها بحيث لا يفقدها أو تصبح قميصا يلبسه ويخلعه متى شاء، وهي ليست أمراً متشيئاً وإنما قناعة راسخة وملازمة تعلن انحيازا ما إلى فكرة جماعية قوية، ولذلك فإنه لحسم الجدل لا بد من الخروج أولا من فكرة الهوية الذاتية والنظر اليها في إطار جمعي، لأن هوية الشخص الذاتية أمر يختلف باختلاف الأفراد على تعددهم وتنوع اتجاهاتهم الفكرية و الثقافية.
الحوار وسيلة وأسلوب فكري لتقريب العقول.. كيف يمكن توظيفه بما يمنع تخريبها وتحوله إلى جدل لا يخدم الأهداف الوطنية والاجتماعية الكلية؟
- الحوار في الإطار الوطني والاجتماعي بمثابة كلمة سحرية وشفرة لكثير من تعقيدات ووقائع الواقع وإشكالاته، وهو يمكن أن يكون أكثر من كونه وسيلة وأسلوبا، ولكن يظل السؤال قائما حول المنهج الذي يوظفه ويستفيد منه في التطوير وتحقيق الأهداف، نحن بحاجة ماسة إلى الحوار في مختلف الإشكاليات والأحوال، سواء كانت مستقرة أو غير ذلك، فهو داعم للبقاء في حالة عقلية ووطنية ثابتة ومنيعة ضد أي اختراقات أو تهشيم للثبات الاجتماعي، إنه يفتح في الحقيقة كثيرا من الأبواب المغلقة ويؤدي إلى نتائج إيجابية مهمة ومثمرة، ولكن لا بد من إدارته بحرفية وعقل منفتح ومتقبّل للرأي الآخر، هناك شروط وظروف محددة لا بد من توفيرها قبل إطلاقه وتوظيفه، ودون ذلك من الصعب أن ينجح ويؤثر ويوصل إلى النتائج المطلوبة.
* كيف تصبح القراءة مشروعا إنسانيا يقوده الفرد من أجل إدراك ما حوله من خلال تطوير وعيه؟
- بالتأكيد، فالجميع أصبح معرضا لسيل هائل من الرسائل الاتصالية التي يمكنه أن يفلترها ويفرز ما يناسب ذاته وهويته ونمطه الفكري، ومجرد تصفح مواقع الانترنت والوقوف على أخبار وحركة الآخرين جدير بالاهتمام به ودافع للقراءة لفهم المجريات وتقويم الآراء، ولذلك من لم يقرأ كتابا كاملا بإمكانه أن يجد نفسه تلقائيا يتعرض لما يعطيه خلاصة ما لم يقرأه، وبالتالي يكتسب فائدة مضافة تحفزه وتلهمه وتدفعه للقراء وتطوير قدراته الإدراكية وذلك هو منجز القراءة الحاسم.
* هل المخاوف من العولمة مبررة ثقافيا بحيث لا يحدث انزياح للهويات الوطنية؟
العولمة مخيفة من زاوية تحركها دون ضوابط أو تحديد جهة بعينها تطلقها كمشروع ثقافي كوني، هناك غموض حول أهدافها واستراتيجياتها، ومن الطبيعي في ظل هذا المفهوم أن تثير مخاوف من تذويبها للهويات والثقافات المحلية للمجتمعات الإنسانية، وذلك يعوق نمطها الفكري في استيعاب المتغيرات المعرفية، رغم صعوبة تشكيل ذلك النمط الذي يحتاج إلى جهة معلومة كمصدر ومرجع واضح يحظى بقبول المجتمعات البشرية. وهي وإن بدت مشروعا ينسجم مع سيطرة الحضارة الغربية على المظاهر المدنية للمجتمعات الإنسانية، فإنها لن تحقق ما تسعى اليه إذ من الصعب تصور أن تماثل ديانة وضعية أو حتى مؤسسية ثقافية أممية.