يحتاج الإنسان إلى اللعب والترويح عن نفسه بين آونة وأخرى. وهذا النشاط اللعبي هو نشاط حيوي، يمكن ملاحظته حتى في الحيوانات الأخرى. وأظن أن كسر الآلية أو كسر النمط هو الكامن خلف هذا النشاط.
وتأتي السياحة بمفهومها في عصرنا الحاضر كأهم النشاطات التي تكسر الآلية في الحياة، وتتيح للإنسان الاستمرار في نشاطاته دون ملل. ولكن السياحة ليست لعباً فحسب بل هي نشاط ثقافي مختلف عن الثقافة السائدة، أي ثقافة مدهشة، تخالف النمط الثقافي المألوف؛ لذا فهي تغني وتزيد من إنسانية الإنسان في حال استمتاعه، وليس في حال جده وكده فحسب.
لن أتحدث عن الجوانب الاقتصادية التي تقوم على السياحة؛ فهي معروفة، ولكنني ربما أشير إلى جوانب التخطيط السياحي المهتم بالثقافة، والمهتم بتفاصيل الجمال. وسوف أتحدث عن السياحة من خلال النقاط الآتية:
(لبس المصطلح)، (سياحة الآثار) و(السياحة في منطقة الباحة).
أما لبس المصطلح فقد مرت السياحة إبان المد الصحوي الثمانيني بخلط متعمد بين مفهومها المعاصر والمفاهيم القديمة للفظ «سياحة»؛ ما أدى إلى تحويل الفهم إلى الجهاد فقط، وأدى إلى احتقار أي نشاط سياحي، وربط السياحة بمفاهيم (السياحة لأجل ارتكاب بعض الموبقات)، أي هناك تقابل بين سياحة جهاد وسياحة ارتكاب الموبقات. وحين انقشعت غمرة الصحوة الموظفة في الثمانينيات، وبدأت العقول تقرأ رويداً رويداً، تم الفصل بين المفاهيم وتوضيحها، أو تم إظهار مختلف الآراء بعد أن كانت مطوية مزوية. وهنا ظهرت مناقشات للفظ (السائحون) التوبة 112، و(السائحات) التحريم 5، وربطت بمصطلحات وأوضاع تعبدية كانت عند الأمم السابقة تعني العزلة من خلال السفر والابتعاد عن الناس. وعلى الرغم من الأحاديث التي تنهى عنها فإن القرآن يثني عليها؛ ما أدى إلى وضع تفسير آخر للسياحة بمعنى الصيام، وهو تفسير غريب نوعاً ما، لكنه - في رأيي - يتم ضمن عملية الاستبدالية في مفاهيم المصطلحات؛ لذا فهو مصطلح استبدالي، أي إبقاء المصطلح واستبداله بمفهوم آخر للإشارة إلى منظومة مفاهيمية جديدة هو جزء منها. وفي رأيي هو استبدال مؤقت، يراد به القضاء على المفهوم السابق فحسب لتأسيس مناخ مفاهيمي جديد (أي هنالك مصطلحات مؤقتة توظف وتنتهي مهمتها فيجب الانتباه إلى ذلك). أو يمكن عد هذه الطريقة من قبيل ما يسمى (شبه المصطلح)، وهي طريقة في محاربة مفاهيم المصطلحات بإدخال أشباه مصطلحات.
ولذا فإن العلماء الذين فسروا اللفظ بإبقائه على ظاهره هم أقرب إلى الصواب، ولكن بأسلوب جديد يعني عدم العزلة النهائية عن الناس، إلا في وقت الفتن الشديدة، كما قال ابن كثير، والجهاد يشمل كل أنواع الجهاد من أعظمه إلى أقله.
ولكن الكارثة في استعمال هذا المصطلح ليست هنا، بل في المفهوم المقابل الذي هو السياحة لارتكاب بعض الموبقات، وهذا المفهوم القدحي لمعنى السياحة ظهر بعد الانتهاء من فترة توظيف الجهاد في فترة الثمانينيات ليكون البديل عند التعامل في الفهم السائد، وما تم حقاً هو عملية أخرى أدعوها (بالخلط المفاهيمي) في ظل الأيديولوجيا الموظفة لتظهر نواتج وعوادم للخلط، ومن ثم قد لا يمكن التخلص من بعض عوادم تلك العملية بيسر وسهولة، وهو ما نلحظه مستمراً وجلياً...
ولذا يجب أن نعرف أن السياحة هي قطاع اقتصادي (وليست كل الاقتصاد)، تقوم على نجاحه دول وشعوب، كما يجب أن نعرف أن هذا القطاع يقوم على جانبين (التسلية، والاكتشاف الثقافي)، بل إن الثقافة تتحكم في التسلية ذاتها، وعلى ذلك فالسياحة هي نشاط ثقافي في الدرجة الأولى، ولكن هذا المفهوم اصطدم هنا بالحث على عدم الاهتمام بالآثار ووجوب الابتعاد عنها أو التباكي حينما نمر ببعضها اعتماداً على بعض الأحاديث واعتماداً على صنع أيديولوجي وخلط مفاهيمي استمر لسنوات طويلة بهدف التوظيف في حسابات سلطوية..
ولا أنسى في زيارة لي للأهرام في مصر، ومع صديق أديب أكاديمي قبل نحو 15 سنة، كيف أنه بدأ يهاجم أبا الهول، وكنت أرى في عينه الإصرار على هدمه لو استطاع!!
مع أن الآيات القرآنية تأمر بالسير (السياحة)، والتفكر في آثار الأمم السابقة (مطلق التفكر)، ومع أن ثمة أحاديث أخرى صحيحة وردت بعدم النهي عن زيارة تلك الآثار، وهي أحاديث صحيحة، ولكن الفهم الأيديولوجي في خلطته الموضوعة حرم زيارة كل شيء، وتم تبني ذلك في سبيل مصالح ما بين الديني والرسمي استرضاء إلى حين، وهذا عطل كثيراً صناعة السياحة بل عطل البحوث الإركيولولجية في فضاء مهم جداً كفضاء الجزيرة العربية التي تعد من أهم الأماكن على وجه الأرض، وما زالت تحتفظ بكثير من أسرارها دفينة حتى الآن. ولذا لا بد من العودة إلى التأكيد أن مفهوم السياحة هو مفهوم حديث، وأن السياحة حاجة إنسانية.. كل إنسان بحسب قدرته، وأن زيارة الآثار هي جانب مهم من السياحة، بل قد يؤجر عليها بحسب المفهوم القرآني ومفاهيم الأحاديث الصحيحة التي حثت على ذلك..
وكلنا نعرف أن البلاد المتطورة تحرص على السياحة الراقية من خلال عرض ما تتميز به من فضاءات طبيعية جميلة، ومن خلال عرض الآثار، ومن خلال العروض الثقافية المتميزة، وأن ذلك يترجم في الغالب في برامج وجداول ومواسم.
ولو تتبعنا النشاط السياحي هنا وتطوراته لوجدناه ما زال مرتهناً (لعملية الخلط المفاهيمي وعوادمها)، فقد جرى تشجيع سياحي في البداية نحو سياحة الداخل لتكون بديلاً عن السياحة الخارجية من غير وضوح استراتيجي للأهداف من ذلك، وخصوصاً أنه كان مرافقاً لفترة منع الابتعاث إلى الخارج!!
ثم إن البرامج المعدة كان يطغى عليها - وما زال حتى الآن - البدائية في التخطيط وعدم الانتقال إلى السياحة كقطاع اقتصادي ثقافي، يهدف إلى تشغيل عجلة الاقتصاد كما يهدف إلى الجذب الخارجي والداخلي في الوقت عينه، بل هي نشاطات تعتمد على فترة قصيرة جداً، يتحسن فيها الجو في المناطق الجنوبية والغربية، وتقوم على التشجيع الحكومي، وتصاحب ببعض النشاطات المكررة والمملة جداً جداً.
وحتى أضع البديل كنموذج سياحي لمنطقة مثل الباحة سوف يرتكز ذلك البديل على النقاط الآتية:
دراسة الوضع الحالي للسياحة ثم التركيز على الناحية الاستراتيجية في التخطيط السياحي، ثم وضع برنامج مبسط لأسرة أو لفرد قادم للسياحة في منطقة الباحة بعد أن زار المسجد الحرام في إجازته السنوية مثلاً. وسأشير إلى هذه النقاط بإشارات سريعة، يقتضيها وضع المقال:
من حيث الوضع الحالي للسياحة فهو وضع مزر، يعتمد على الطريقة القديمة في إدارة السياحة حتى مع وجود هيئة السياحة، وحتى مع دعم حكومي دعائي؛ لذا لم أستغرب حين نقل إليّ أن صاحب أكبر مشروعين سياحيين ليس متحمساً للباحة، ويقول عنها هي ممر وليست مقراً، فكيف تنهض السياحة إذن؟
لا بد من التركيز على النواحي الاستراتيجية التي تعني المساهمة في جعل السياحة استثماراً، وصناعة، وثقافة، أي تدر دخلاً معنوياً ودخلاً مادياً للمنطقة، ولن يكون ذلك إلا بتحويل السياحة إلى ثقافة. وفي الحقيقة، إن بعض الضيوف الكبار حتى للمملكة يريدون أن يعرفوا أين هو موطن أبي هريرة مثلاً، وأين هو موطن الخليل بن أحمد، وأين نشأ الشنفرى، وغير ذلك من الأعلام. كما يريدون أن يعرفوا قصة جبل شدا، ويريدون أن يروا طريق الفيل المرصوف في منطقة الباحة، ويريدون أن يروا سوقاً جاهلياً كالعبلاء وكحباشة، ويريدون أن يروا مناجم سليمان التي كانت تنقل الجن له منها الذهب في عشم، ويريدون أن يروا مناجم قديمة أخرى، ويريدون أن يشرح لهم قصة المسجد الذي بناه علي بن أبي طالب، كما يريدون أن يشرح لهم قصة بني هلال وهجرتهم من أبيدة وقصة خرائب معشوقة، ولكن ذلك لن يتم إلا في صورة برنامج سياحي يأخذ أياماً عدة بحسب تخطيط الضيف. وعلى ذلك فسأعتبر نفسي سائحاً، ولكن ليس لزيارة غابة جميلة كرغدان أو عمضان ثم انتهى كل شيء، وإنما سوف يكون لي برنامج سياحي معد في النزل أو الفندق، يتضمن على سبيل المثال في اليوم الأول: (زيارة مسجد أبي هريرة [المهدوم]، زيارة غابة عمضان، زيارة مطعم محلي والتسوق في سوق كبير مع الأسرة).
واليوم الثاني: (زيارة قرية ذي عين، زيارة متحف محلي، التمتع بالألعاب المائية في سد العقيق أو سد الملد أو سد وادي الصدر أو سد الجانبين، حضور حفل موسيقي أو حفل شعبي أو مسرحية).
اليوم الثالث: (زيارة عشم حيث مناجم النبي سليمان، زيارة جبل شدا، التسوق في سوق المخواة الشعبي، سوق بلجرشي وسوق رغدان)
اليوم الرابع: (زيارة آثار جبل قملى، زيارة طريق الفيل، زيارة خرائب معشوقة، حضور فعاليات البادية، التسوق في أحد «المولات» أو زيارة موقع منتجات محلية يجري تسويقها على مستوى عالمي، وليس محلياً فحسب).
اليوم الخامس: (زيارة غابة رغدان، ممارسة هواية تسلق الجبال، زيارة موقع ترفيهي للصغار وركوب العربات الكهربائية).
وبهذا يستطيع الزائر أن يستمتع بوقته، وأن ينمي ثقافته عن هذه المنطقة وأهميتها التاريخية في إطار تاريخ وفضاء الجزيرة العربية.. ولكن ذلك يجب أن يكون بكل صراحة طوال العام، وأن يجري التخطيط الإعلاني له، كما يجب أن يتم الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة جداً، التي تمثل هوية المنطقة وجماليتها بحيث تكون مختلفة وممتعة ورائعة في شوارعها.. في مبانيها.. في إنسانها.. في ثقافتها.. في اللمسات الصغيرة جداً التي تدل على الاهتمام بأدق التفاصيل وبأدق الجماليات، وليس مجرد تنفيذ أي شيء كيفما اتفق.. والمهم أننا قمنا بشيء وكتبنا أننا قمنا به!! ولكن هو شيء في الحقيقة لا قيمة له على المستوى الاستراتيجي، ولا على مستوى الوضع الممكن، ولا على مستوى الرقي الحضاري والإنساني.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة