لم يكن في الحسبان أن تتحول ساحاتنا الثقافية من نزال رفيع المستوى ينطلق من مبدأ المنافسة والفكرة والإبداع إلى ما آل إليه اليوم من سقف بسيط زادته انخفاضا أدوات التواصل الاجتماعي التي جعلت جزءا كبيرا من مثقفينا لا يكاد ينفك من التزام هذه الأدوات الملهية عن حقيقة ما يجب أن نهتم به. هذه الميديا الهجين بين فكرة الحصول على إعجاب الآخرين وبين نشر شيء لا يعدو غالبه عن كونه نشرا هشا لا يعود بالنفع. فمنذ عام 2008 ووصول الفيس بوك للسعوديين، انتشرت آفة النشر لأتفه سبب ممكن بغية الحصول على تفاعل الآخرين! فظهر لنا فجأة عشرات الآلاف من القصاص والكتاب وطلاب العلم. وللأسف فقد ظن الجميع أننا قد بدأنا مرحلة جديدة من الفكر والحضارة، وبأننا قد تفجرنا مواهب كانت خاما تحتاج إلى صقل!
لقد شعرت بالأسى حقا وأنا أشاهد كثيرا ممن كنت أراهم نخلا باسقا، فقد كنت أنتظر لهم خبرا في صحيفة، أو صولة في ناد، أو نشرا في مكتبة، أو لقاء في تلفزيون، أو خطبة في مسجد، فإذا بي أراهم اليوم يصورون أنفسهم كل صباح لمعجبيهم قائلين صباح الخير! لقد كانت المرأة في السابق هي المدخل إذا ما أراد الأعداء التزام مخططهم في الإطاحة بسلطان أو شاه، أما اليوم فإن الشهرة هي المدخل التالي على الجميع. وكأني أرى اليوم البحث عن هذه الشهرة قد أصبح الهاجس الكبير لأي صاحب هوى، فتراه يلهث وراء التويتر والانتسغرام والكيك والسناب شات كي يزيد من رصيد متابعيه. وتحضرني دوما يا ترا، ماذا خدمتنا تلك الشخصيات من تغريداتها وكيكاتها وصورها، وهي مطرزة «بالتطبيز» و»التشخيص» والتواء الحرف وتكسر الوزن والتهام الحقيقة؟ لقد آمنت حقا بأن هذه الميديا الاجتماعية قد صنعت كرة من الثلج بداخلها كثير من اللغط والحشو والرياء والدعة، وقد اصطدمت بإيمان أصحابها فاهتزوا أمام الجميع.
إن الفراغ والمال اللذين أصابا المجتمع السعودي قد أحدثا ثورة من الرغبة في عمل شيء ما يعود عليهم بنتيجة، كالشهرة و»الهياط» والكذب، بدلا عن الحاجة للإسراع في بناء أنفسهم ووطنهم. ولم يعد يخفى على الجميع أن كثيرا من موظفي الدولة خصوصا من الشباب الذين تكفل لهم الراحل عبدالله بن عبدالعزيز طيب الله ثراه بالتوظيف، قد أصبحوا اليوم يؤدون عملهم اليومي إلى جانب فتح صفحاتهم على الفيس بوك والانستغرام بشكل مستمر ومخجل أمام المراجع الكريم. بل لقد أشبعنا حد التخمة أحد مسؤولي إحدى أهم جامعاتنا بالتغريد عن اليمن وسوريا وأكل الخضراوات وتمارين شد البطن أثناء الدوام في حين يقوم هو نفسه بحظر المراجعين «الغلابا» الذين يستفسرون منه في شؤون وظائفهم! لقد مللنا حقا وجود هذه العينات داخل المجتمع ممن سلمتهم الدولة ثقتها أو مسؤوليتها أو أمنها ثم أضحوا بعيدين كل البعد عن الهدف المنوط بهم!
لقد جاء بفضل الله عهد سلمان الحزم الذي نتمنى استمرار تشذيبه لكل من يأوي سوء عمله مع ما أنيط به من مسؤوليات، ولن يخفى على القيادة الحكيمة أولئك الذين يظنون بأن لافتاتهم التي تبايع سيدي الملك وولي عهده وولي ولي عهده بأنها تكفي أمام الدولة، وهم بنفس الوقت يقومون بحظر المراجعين والشاكين والسائلين!
إن ما يريده سيدي خادم الحرمين الشريفين هو أن يعلم الجميع بأن هدفه الأول هو أن تكون الدولة نموذجا رائدا، ولن يتحقق ذلك إلا بما سبق وأن رأيناه من حزمه في إقصاء كل مدع للمسؤولية وهو ليس لها بأهل.
وأخيرا: فإن الواجب على مثقفينا ودعاتنا ومسؤولينا ألا يكونوا ضحية هذه الشهرة المكذوبة، فالميديا الاجتماعية من مهبطها هنا في أمريكا هي مبنية على أساس إنشاء العلاقات والتعرف والتواصل الاجتماعي لا أكثر، وكل من يظن أنه سيقوم بمشروع حقيقي ديني أو ثقافي أو فكري من خلالها فهو يتوهم! لأنه الاتكاء على العامة من الجمهور لن يزيد مشروعه في الغالب سوى الفشل.
عبدالله بن سعد العمري - كاتب وأكاديمي سعودي - الولايات المتحدة