نواصل مع ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة: وقد أدى تعيين مبارك لمحمد سيد طنطاوي شيخا للأزهر، بالفعل، إلى زيادة النزاع على عدد من المستويات؛ وأولها نزاع داخل الأزهر نفسه.
ومع أن طنطاوي كان يحظى بدعم من العلماء التقدميين، إلا أن العلماء المتزمتين تحفظوا على تعيينه واعتبروا أن تلك الخطوة تجري في سياق محاولة الحكومة إعادة تأكيد هيمنتها على الأزهر.
في غضون سنة من تعيينه، اتخذ طنطاوي إجراءات تأديبية ضد علماء متشددين تحدوا تعيينه وقيادته للأزهر.
وأُجبر كل من الدكتور الشيخ محمد البري، رئيس جبهة علماء الأزهر؛ والدكتور الشيخ يحيى إسماعيل حلبوش، الأمين العام للجبهة ذاتها، على الاستقالة من منصبيهما في أبريل 1998، بعدما انتقدا بشدة اجتماع طنطاوي مع كبير حاخامات إسرائيل الأشكناز.
وبحلول يونيو من العام نفسه، فكّك طنطاوي تماما مجلس إدارة «جبهة علماء الأزهر»، بعد نقدها القاسي لإصلاح برنامج التعليم الثانوي الأزهري.
وعُيّن الشيخ فوزي الزفزاف، وهو مؤيد مخلص لطنطاوي، ليرأس جبهة علماء الأزهر.
وقام الرئيس الجديد، على الفور، بنزع السياسة من ميثاق الجبهة.
ومن ثَمَّ، حوّلها إلى جمعية خيرية.
وأدى تعيين طنطاوي، أيضا، إلى تفاقم التوترات بين الإسلامويين المتطرفين والحكومة.
وإذا حاولنا أن نفهم ظاهرة الإسلاموية المتطرفة بأنها أكثر من مجرد نتيجة لضائقة اقتصادية ولضغط سكاني ولفشل في سياسة الحكومة، كما اقترح الباحث ريموند بيكر أن نفعل؛ فيجب أن نأخذ على محمل الجد تظلمهم المركزي بأن الحكومة تتلاعب بالدين وتفسده (75).
تعيين شيخ للأزهر موال للدولة كطنطاوي بحد ذاته والصراع الدائر داخل صفوف الأزهر ضاعفا من مشاعر خيبة الأمل لدى أعضاء الجماعات الإسلاموية المتطرفة؛ بل والأخطر من ذلك هو أن ذلك التعيين أدى إلى تقويض قدرة الأزهر على نزع شرعية مزاعم الجماعات الإسلاموية المتطرفة وتفنيدها ومَنَحَ شرعية للخطاب الإسلاموي المتطرف، الذي يزعم بأن الحكومة تتلاعب بالدين وتفسده لتحقيق مكاسب خاصة بها.
تعيين طنطاوي ليس علامة على قوة الدولة بل بالعكس يعدّ علامة على تزايد يأس وضعف الدولة وقد ينظر بعض العلماء إلى تعيين طنطاوي باعتباره مؤشرا على قوة الدولة المصرية نظراً لتمكن مبارك من تعيين شيخ تقدمي موال للحكومة لرئاسة أهم مؤسسة لتدريس العلوم الإسلامية وأكثرها تأثيرا في العالم، وكدليل دامغ على درجة الهيمنة التي اكتسبتها الدولة المصرية على الأزهر في القرن الماضي؛ ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك كما أثبتت تجارب العقود القليلة الماضية، لأن هذه السياسة تهزم صاحبها في نهاية المطاف بالرغم من أية مكاسب قصيرة الأجل.
وبناء عليه، ينبغي أن يُنظر إلى تعيين طنطاوي ليس كعلامة على قوة الدولة؛ بل بالعكس، أي باعتباره علامة على تزايد يأس الدولة وضيقها من الحالة الإسلاموية.
ومما لا شك فيه أن مبارك يدرك جيداً التأثير طويل المدى لتعيين طنطاوي على العلاقات بين الدولة والمجتمع في مصر؛ ولكنه في الوقت نفسه شهد بنفسه تآكل سيطرة الدولة في المجتمع على عدد من الجبهات، ويعود ذلك أساسا إلى سرعة وتيرة سياسة التحرر الاقتصادي (76).
وهكذا، يمكن أن نعدّ تعيين طنطاوي بمثابة دليل على أن الحكومة المصرية تبحث باستماتة عن طرق لتعزيز سيطرتها على المجتمع؛ بل إن اليأس جعلها مستعدة لتبني سياسات قصيرة الأجل خطيرة ويمكن أن تقوض حكمها، في نهاية المطاف.
النتائج تشير محاولة الدولة تنظيم المجال الديني في مصر المعاصرة إلى أن قادة الدولة يمكنهم؛ إما محاولة الهيمنة على المؤسسات الوسيطة (*) أو السعي إلى خلق علاقة تعاونية معها.
اختار قادة مصر، في أعقاب انقلاب عام 1952، إستراتيجية الهيمنة واخترقوا المؤسسات الدينية في صراع من أجل السيطرة عليها.
ومع أن الحكومة تمكنت من السيطرة على الأزهر، إلا أن هذه السياسة لم تكن تخدم مصلحة الدولة على المدى الطويل؛ لأنها أدت إلى بزوغ الجماعات الإسلاموية المتطرفة، وتراجع نسبي في شرعية الأزهر (أي صدقيته)، على الأقل لدى إحدى شرائح المجتمع المصري (أي الشريحة المتدينة).
وقد سمح التحول من سياسة الهيمنة إلى علاقة تعاونية في التسعينيات للحكومة والأزهر بمواجهة تحدي الجماعات الإسلاموية المتطرفة والاستفادة من ما أسماه كل من مجدال والخولي وشو «التمكين المتبادل» (77)؛ ولكن التحول إلى علاقة تعاونية كان مؤلماً ومحبطا للحكومة، لأن تجدد نفوذ الأزهر كان يعني أن الحكومة سَتُجبر على تحمل انتقادات متزايدة من الأزهر الذي كانت تهيمن عليه بالكامل سابقاً.
ومع زيادة هذا النقد وتحقيق الأزهر مزيداً من الانتصارات على مؤسسات الدولة، وجدت الحكومة صعوبة أكثر في إعادة سياسة الهيمنة.
وأدى ذلك الوضع الحرج إلى تعيين طنطاوي الموالي للحكومة شيخا للأزهر في أوائل عام 1996 .
وقد لاحظ الباحث الدكتور جهاد عودة نمطاً مماثلاً من التفاعل بين الحكومة والإخوان المسلمين في الثمانينيات (78)؛ فعندما حاولت الحكومة تشويه سمعة الإسلامويين العنيفين، لجأت إلى صنع ترتيب تعاوني مع الإخوان المسلمين المعتدلين مشابه تشابهاً مدهشاً لشراكة الحكومة اللاحقة مع الأزهر.
وخلال تلك الفترة، تخلت جماعة الإخوان المسلمين عن العنف، وتعهدت بالعمل ضمن النظام السياسي القائم من أجل إصلاح إسلامي معتدل.
وفي المقابل، سمحت الدولة للإخوان المسلمين بالترشح في الانتخابات البرلمانية عامي 1984 و1987 في ائتلاف مع أحزاب المعارضة العلمانية، وسمحت لهم أيضاً بالمشاركة في انتخابات عدد كبير من النقابات والجمعيات المصرية.
ويجادل عودة بأن «هذا النوع من التعاون كان حافزه الرئيس حاجة الدولة إلى خلق قاعدة شعبية مناهضة للإسلامويين العنيفين» (79)؛ ولكن عودة يزعم أن الحكومة سرعان ما أصبحت ضحية، وخسرت بسبب ذلك التعاون مع الإخوان المسلمين بعدما استغل الإخوان المسلمون نفوذهم السياسي المتزايد لانتقاد الحكومة والضغط عليها من الداخل.
وفي نهاية المطاف، أنهت الحكومة اتفاقها مع الإخوان، وحاولت مجدداً السيطرة على تلك جماعة.
ولم يكن مستغرباً أن هذا التغيير في الإستراتيجية أدى إلى تجدد العنف الإسلاموي في التسعينيات ومعاودة الحكومة لمغازلة الأزهر.
هوامش المترجم:
(*) الوسيطة بين الدولة والمجتمع.
- ترجمة وتعليق: د.حمد العيسى