تعيش المنطقة العربية حالة من الفوضى قلبت موازين كثيرة، حتى يبدو أن إعادة ترتيب الأوراق مسألة لم تعد سهلة، انعكس ذلك على الحياة الثقافية بشكل عام وانعكس بشكل خاص على الثقافة السينمائية لأنها الثقافة الظاهرة للعيان بشكل ملموس أكثر من ثقافة الشعر والرواية والرسم التي هي أدوات تعبير تتعلق بالمبدع الواحد، الفرد، فيما السينما ثقافة جمعية فيها من الكتّاب والمصورين ومهندسي الصوت والممثلين وظاهرة في الإبداع تتعلق بالواقع وبالطبيعة وفي العرض تتعلق بصالات سينما.. وهذه الصالات السينمائية يؤمها الناس وبشكل خاص مساء وليلاً بعد جهد تعب اليوم.
ما هو حاصل اليوم وبسبب الأحداث الدرامية التي عصفت في المنطقة أن المنتج السينمائي بدأ ينسحب من المهنة لسببين، الأول الجانب الأمني الذي جعل الناس يتخوفون من الذهاب للسينما خوفاً من أحداث العنف التي تسود المنطقة يدخل في هذا الجانب الرؤية السلفية لثقافة السينما واعتبارها من المحرمات ما تسبب في إغلاق الكثير من صالات السينما أبوابها وحوّلها أصحابها إلى مخازن لبضاعة البلاستيك.
وضمن هذه الأجواء والمخاوف الاجتماعية ظهر في سوق الثقافة «إن صح التعبير» عدد من المافيات، فما أن يتسلم صاحب السينما الفيلم الذي يتمنى المنتج أن يحقق مردوداً معيناً يغطي الكلفة الإنتاجية أو يعود بشيء من فائض القيمة حتى يجد في الصباح فيلمه معروضاً في الأسواق على شكل شرائح دي في دي وبأسعار بخسة تباع منها كميات أحياناً بآلاف النسخ إن لم يكن بالملايين، وتعود هذه الأرباح لتلك المافيات، فيشتريها الناس ويفضلون مشاهدة الفيلم مع العائلة في المنزل وتتجنب العائلة مخاوف ارتياد صالات السينما ومشكلاتها المتوقعة. يشترونها بأسعار بسيطة من سوق شرائح الأفلام بدلاً من دفع كلفة تذاكر كل أفراد العائلة لشباك التذاكر.
يصبح والحالة هذه أن السينما كظاهرة ثقافية ومشاهدة الأفلام كظاهرة ثقافية تكاد أن تختفي من الواقع الثقافي في المنطقة العربية، لأن السينما هي إضافة لكونها فن فهي حسب النظرة البريطانية «تجارة وفن» وحسب النظرة الأمريكية «صناعة وفن» فإذا ما افتقدت السينما هدفها التجاري والصناعي انسحب المنتج السينمائي بالضرورة من الساحة الثقافية السينمائية.
كانت مافيات سرقة الأفلام السينمائية موجودة منذ فترة، ولكن كثير من العائلات تفضل الذهاب إلى السينما واعتبارها ثقافة وفسحة مسائية تتمتع فيها العائلة بالمشاهدة الجماعية في وسط صالة سينما مطفأة الأضواء ومشاهدة الفيلم على شاشة عريضة واسعة، ولذلك فهي أكثر متعة من مشاهدة الفيلم في البيت وسط أجواء الهواتف الجوالة وحركة العائلة في المنزل ما يفقد متعة المشاهدة عنصر التركيز، لكن دخول الجانب الأمني وتوقعات حالات الخوف من حدوث شيء ما، عزفت تلك العائلات عن ارتياد صالات السينما وتفضيل مشاهدة الفيلم داخل المنزل بعيداً عن توقعات العمليات الإرهابية والتفجيرات.
متابعتي للسينما والإنتاج السينمائي العربي وانحسار حجم الإنتاج بسبب غياب المنتج عن الساحة وخوفه من خسارة رأس المال بدأ جيل من السينمائيين الشاب خوض تجارب سينمائية جديدة يغيب عنها المنتج التقليدي.. وفي غياب المنتج التقليدي تغيب فكرة «سينما شباك التذاكر» وسينما «الجمهور عايز كده» التي قللت هذه المفاهيم من تألق الإبداع السينمائي ومساومة المخرج للمنتج بما يريد باعتباره صاحب المال والمتحكم في العملية الإنتاجية.
غياب المنتج السينمائي جعل السينمائيين يقتحمون عالم الإنتاج السينمائي بالإمكانيات التقنية الحديثة وبميزانيات تكاد لا تذكر قياساً بسينما المنتج وسينما شباك التذاكر وسينما الجمهور عايز كده!
هذا التوجه الثقافي لسينمائيين مثقفين حقيقيين وبعيداً عن كوابيس المنتجين المرهقة تحرر عقل السينمائي من هيمنة المنتج وبدأ البحث عن سينما حرة في مضمونها وحرة في شكلها ومحاولة إيجاد علاقة مع المتلقي غير العلاقة التقليدية، لا سيما وأن الواقع السياسي المعاش والذي ينعكس على الواقع الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي يحتم نهضة ثقافية مختلفة، نظرة غير تقليدية. بدأ جيل من السينمائيين يبحث عن لغته السينمائية المعبرة «بحرية» عن الواقع المعاش ليس من ناحية المضمون فقط، بل أيضاً من ناحية الشكل والأسلوبية واستخدام مفردات لغة التعبير السينمائي بطريقة مختلفة عما كان سائداً، وعما كان تقليدياً فيه الكثير من المساومة بين الحلم والواقع.
لقد لمست ذلك وأنا في مهرجان القاهرة السينمائي والحوارات التي تجري بين السينمائيين المجددين بينهم أنفسهم، وبين انطباع الجمهور عن السينما غير المعبرة عن عمق معاناة الناس ومعاناة المثقفين السينمائيين.. الجمهور يريد من السينمائي نظرة جديدة للحياة وتحليلاً عميقاً للواقع والتفكير بأسلوبية جمالية تنعكس على مشاعر المتلقي.. أسلوبية غير تقليدية يكاد أن يعلن زمنها نهايته، لأنها كانت دائماً أسيرة الاقتصاد الربحي وأسيرة استخدام السينما لصالح الشق الأول من الفهم البريطاني المتعلق بالتجارة، وتحقيق سينما بديلة شكلاً ومضموناً. في تقديري هذه السينما آتية وبقوة وبقدرة إنتاجية توفرها التقنية الحديثة لم تكن تقنيات السينما السابقة تحققها.. أقصد تحقيق الفيلم بميزانيات غير منفوخة على الإطلاق.. فالفيلم الذي يفرض نفسه وبصناعة النجوم على المخرج بملايين الدولارات صار اليوم في حوزة المخرج الجديد أجهزة تقنية حديثة يستطيع امتلاكها وتحقيق سينما مختلفة والبحث عن وسائل إيصالها للجمهور بطرائق جديدة وربما عبر صالات السينما نفسها التي تستهوي جمهور المشاهدين في مشاهدة أفلام جديدة على شاشة عريضة وبصوت ساحر مدهش يدغدغ أسماعهم من خلال صور وحكايات معبرة عن الواقع وبأساليب جديدة غير تقليدية وغير سائدة وغير مألوفة!.
- هولندا