مُنذ مايقارب أربع سنوات -بعد حصولي على شهادة مُدرِّب معتمد- أكرمني الله –عزّ وجلّ-بالعمل متعاونة؛ لتدريب، وتثقيف، وتأهيل المشمولين بالرعاية في الفروع الإيوائية في منطقة الرياض.
كان العمل بالشراكة بين الجهة التي طلبت مِنّا التّعاون، ووزارة الشؤون الاجتماعية.
درّبنا فئات نسائيّة متفاوتة الأعمار؛ كلّ فئة بحسب المكان الذي يؤويها، بما يتناسب مع الظرف الذي وُضِعتْ بسببه في تلك الأماكن.
في إحدى الدورات المحددة للفئة العمرية التي بين: (15-24) سنة استأذنتني المشرفة في السماح بدخول مُتدرِّبة ليست من ضمن هذه الفئة المستهدفة؛ حلّت ضيفة قبل الدّورة بساعات، وتريد أن تستفيد.
كانت سيّدة في بداية الخمسين، عليها من سمات الوقار الكثير. ترتدي الزّي السعودي للسيدات في سنها (الشيلة والجلابية)
همست لي المشرفة بأنّها أميّة لا تقرأ ولا تكتب -حتى لا أحرجها في التدّريبات- وأضافت بأنَّ قضيتها ليست كقضايا النزيلات هناك، وأنّها ستبات تلك الليلة على أن تُرَحّل اليوم التالي لسجن النساء.
استضفتها في تلك الدورة، فكانت تشاركنا بحكمتها، و تُعقِّب بكلام يشبه حِكم الأُمّهات اللواتي تدرّبن على يد الحياة بعمق، وتخرجن من مدرستها بالعِبر.
من الأشياء الجميلة -التي لفتت انتباهي في تلك الدُّور- الحفاظ على سريّة معلومات النزيلات، فقبل كلّ دورة؛ تجتمع معنا المشرفة؛ لتعطينا قائمة بالممنوعات وعلى رأسها: (لا يحق لي كمُدرِّبة السؤال عن اسم عائلة النزيلة أثناء الدورة، و لا يحق لي فتح حوار مع النزيلات عن طبيعة قضاياهن).
هذا الحرص الجميل منْشَؤه الستر، والحفاظ على السُّمعة؛ لذلك كانت تحضر معنا المشرفة أثناء الدّورات؛ لتتدخل عند الضرورة.
هذه المرأة لم تكن تعرف هذا القانون، وعندما عرفته؛ حاولت كسره بكل ما أُوتيتْ من عِزّة.
قالتْ بلهجتها المحليّة : «تراني أعرف ربي، وقضيتي ما تسوّد إلا وجه راعيها) هنا تدخلتْ المشرفة، فيما حاولتُ لمّ الموضوع بحيث لا تكمل إلا أنّها أكملت: «استغل اسمي وجهلي -الله يسامحه- وركبني ديون...»
تدخلت المشرفة، وطلبتْ منها عدم التّحدث، وإلا ستضطر لإخراجها، فصمتتْ.
كنتُ أعلم جيّدا ما سرّ ثورتها!
إنّها لا تريد مني -وأنا العابرة- أنْ أظن فيها ما هو أسوأ مما قالت.
لقد ثارت؛ لتؤكد لنا أنّها لا تحمل تهمة؛ تجعلها حبيسة ذلك المكان -خاصّة- !
لم أعرف تفاصيل قصتها، ولا من هو ذلك القريب الذي انسلخت رجولته، ورضي أن يُزجَّ بها في السجن عِوضًا عنه.
عدتُ للبيت، وصورة تلك المرأة لا تفارقني؛ فأنا لم يسبق لي أن تخيلت - ولو مجرد خيال- أن أرى امرأة سعوديّة سجينة، بل ولم أرَ سجون النساء، ولا أعرف عنها شيئًا، بل ولم أتعرّف على تلك الدّور المختلفة التي تحافظ على (تاءات التأنيث) من الولادة حتى الزواج إلا مع تلك الدورات، التي أضافتْ لي إنسانيًّا، ووطنيًّا الكثير، وأشعرتني بالاهتمام المرأة في وطني حتى وهي في دوائر الاتهام.
قضيّة تلك المرأة نبهتني لهذا الاستغلال من بعض الأقرباء لقريباتهن - لا سيّما الأُمّيّات منهن- اللواتي لا يعرفن خطورة أن تكون باسمها مُنشأة تجاريّة، قد تورطها في مديُونيّات، فيما يهرب مقترف الجرم، أو يموت؛ فتواجه هي القانون نيابة عنه كمتهمة لم تقترف تهمة!
هذا الاستغلال -الذي تكون فيه المرأة مغلوبة على أمرها غالبًا- يعطي الحقّ لقريبها؛ للاستفادة من اسمها تجاريًّا من خلال استخراج تراخيص لفتح منشآت تجاريّة، وتسلّمه قيادة الممارسة باسمها، وليس لها إلا أنْ تبصم، أو توقع، دون أنْ يخطر في بالها بأنّه ربما استغل اسمها في أمور تعرضها للمساءلة القانونيّة.
هذه المشكلة التي تُقترفُ بدواعي الطيبة، والثقة، والتعاون؛ لتحسين دخل الأسرة،لم تُبصّر المرأة في عواقبها، بل إنّ الكثير من النساء الأُمُّيّات تحديدًا؛ قد لايعرفن شيئًا عن الأنشطة المسجلة بأ سمائهن؛إلا بعد وقوع الفأس في الرأس.
الواقع في مثل هذه القضايا سيقف في صف الرّجل؛ فهو لن يضطر لهذا اللف، والدوران؛ إلا من حاجة.
والمرأة التي سترفض منح اسمها لقريبها مع حاجته،ربما تُعرّض نفسها للعنف الأسري، أو الطلاق، أو التضييق؛ فقد تكون هذه المرأة أرملة تَعُولُ، أو مُطلقة تُعَالُ.
هذه القصة، وأشباهها الكثير، خلف جدران البيوت؛ تضع يد القانون على الوجع؛ لمداواته، والحفاظ على بنات الوطن من استغلال نبع من حاجة، قد يَزُجُّ بهن بسببها في السجون.
الذي سيضطر لهذه الصورة غير الشرعية غالبًا مايكون موظفًا حكوميًّا؛ ( مدنيًأ، أو عسكريًّا) راتبه لا يسد حاجته، ولا يُؤمّن له حياة كريمة؛ لأنّ قانون وزارة التجارة، لا يسمح لموظفي الدّولة بفتح سجلات تجاريّة بأسمائهم، مهما كان عدد أسرته، قلّ راتبه، أو كثر.
صعوبة ظروف المعيشة مؤخرًا؛ باتت تؤكِّد بأنّ الكثير من الأنظمة، تحتاج إلى مراجعة حتى تكون مواكبة للمرحلة التي يعيشها المجتمع الآن خاصّة تلك الأنظمة المعطِّلة لمصالح النّاس والتي قد تضطرهم لمثل هذا التحايل.
وبالرغم من كثرة المطالبات؛ إلا أن هذا الموضوع الذي يثار سنويًّا؛ يُفتح، لكنه لا يُغلق بما يسر!
وإذا ظهر فيه تصريح لا يكون صريحًا، ولا يعدو أن يكون حديث مواقع غير رسميّة.
المجتمع يحتاج للبت في هذه القضيّة المصيريّة، دون توظيف للنوايا وقراءتها، واستباق الأحداث: من أنه قد يقصر في عمله، أو يؤثر على عمله الحكومي؛ لصالح عمله الخاص، أو قد يترك وظيفته.
فهذه التّكهُنات يمكن أن يخدمها التقييم، والمراقبة.
ثم إنّ ترك الموظف للعمل، لم تعد قضيّة مخيفة؛ فطابور البطالة، سيحل مشكلة إحلال المناسب.
من حق الموظف الحكومي أن يفتح سجلًا تجاريًّا باسمه دون تستر، فمنعه ضرب من التعقيد الذي لا مبرر له.
مازلنا ننتظر مع مجلس الشورى ردّ لجنة إدارة الموارد البشريّة على المقترح، الذي تقدم به عضو مجلس الشورى الدكتور أحمد الزيلعي في مطلع هذا العام 2015 الذي اقترح فيه إتاحة الفرصة للموظف الحكومي؛ لفتح سجلاً تجاريًّا؛ لمواجهة الغلاء، وللقضاء على ظاهرة التّستر مادام منع هذه الظاهرة لن يجدي نفعًا، حتى لا يضطر ابن الوطن إلى المغامرة بأسماء نساء بيته مضطرًا، ناقمًا على مجتمعه الذي أجبره على ذلك فيما المستثمر الأجنبي يرتع في خيرات الوطن، ويُصدّر الأرباح للخارج، فلا الوطن مستفيد، ولا المواطن مستفيد.
د. زكيّة العتيبي - الرياض