وعندما عجزت عن تجاوزها بحثت عن امرأة أخرى، امرأة تشبهها لأحبها (رغم يقيني أنه لن يشبهها أحدٌ) لأني آمنت وبعد عذابات مريعة، أنها ستظل تلاحقني إلى الأبد كلعنة حيث ما ذهبت، وأني سأظل مسكوناً بها حتى دون الشعور بذلك.
ولأن الحياة لا تهبك ما تريد، ولا الأحياء أيضاً يفعلون فقد بحثت هذه المرة عن امرأة متوفاة، امرأة لن ينازعني حبها أحدٌ، امرأة لا أخاف رحيلها ولا غيابها ولا حتى أن لا تحبني، ثم نحن حتماً نغفر للأموات ولكننا لا نغفر لأحياء حين نظن أنهم خانوا.
بدأت البحث بالصور، كنت أفتش عن امرأة تقاربها وليس بالضرورة أن تشبهها فلن يشبهها أحدٌ أبداً، ولكن لعلّ امرأة تقاربها في الحزن.. في الملامح وفي نظرة الضياع والغربة في هذا العالم والتي لا تحد.
ثم فتشت بالتعاسة التي كانت تسكنها.. ولم تكن تلك مشكلة أبداً، وهل حياة النساء إلا التعاسة؟.. كانت صور النساء المسكونات بالحزن كثيرة، لكن هناك حزناً يرقد في العينين كالكحل، حزناً لا يمحوه أي فرح ولا حتى فرح الواصلين محطات السفر بعد الغياب.
وأخيراً، كنت أفتش عن إمراة بكبريائها، امرأة تمتلك ذلك الكبرياء الملكي..كبرياء المرأة شيء متعب في حياتها، شيء يمنحها الخسارات يقينا ودون أدنى وعد بالهبات عدا لذة الشعور نفسه.. كبرياء الأنثى يختلف عن غرورها، الغرور جواهر مزورة يفضحها أول انطفاءة ضوء لكن الكبرياء شيء آخر.. الكبرياء هو الاختيار بين ما هو سماوي وما هو ترابي فانٍ.
لم أبحث عن هذه المرأة الحلم.. المرأة البديل في دواوين الشعر، والنساء غالباً تُقال فيهن القصائد ولكنهن لا يكتبن الشعر.. والمرأة الشاعرة إن وجدت غالبا ما تكون مسكونة بالنرجسية والبحث المضني عن الملهم والمتذلل والعاشق.. المرأة والشعر كلاهما واحد..كلاهما الرغبة وكلاهما اللا يقين.
حاولت في البدء التعلُّق بـ «توني موريسون» قبل أن أعرفها.. شدّتني روايتها محبوبة، ثم روايتها الأخرى «أكثر العيون زرقة» غير أني بعد أيام فقدت التعاطف معها فضلاً عن حبها ولم تكن تشبهها أبداً ثم إنها لا تزال حية وفوق ذلك هي أمريكية مغرورة، وأنا لم أخلق لحب ذلك الشعب صاحب كل تلك الفظاعات وذلك الغرور.
وجدت الأخوات (برونتي) غير أنهما كانتا موغلتين في الزمن.. حاولت التعلُّق بآن تايلور..»بهربت ستاو» صاحبة الأرض الطيبة ولكن الغرور المصاحب لهن جميعاً جعلني أتردد..كنت أفتش عن الانسحاق داخل الإنسان.
فتشت وفتشت وفتشت ووجدتها أخيراً.. وجدتها شبيهة المرأة التي أحببت والتي أبداً لن أحب سواها.. وجدتها بجبينها العالي وكبريائها الحزين وحتى بموتها الذي حتماً سنكرره معاً مرات ومرات، وبشكل يليق بنا من جديد.
كنت قد قرأت روايتها الأمواج، ثم السيدة دالاوي فوقعت في حبها دون تبصر.. وآمنت أنها البديل عن عزاء لن يصل، وعن امرأة عبرت هذا الكون مرة واحدة ثم غابت.. امرأة كانت هنا وهي الآن نجمة تتجول في السماوات.
فرجينا ولوف الحزينة كأيقونة الملائكة وليدة الألم.. ووريثة الألم وحصاد كل الآلام هي من اخترت، ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر أني وصلت وآن لي أن أستريح.
وبندم قاسٍ اكتشفت متأخراً جداً أننا أصدقاء منذ القدم.. أصدقاء جمعت أرواحنا ذات يوم أرض الهند الكبرى وتنزهت أرواحنا معاً في فضاءاتها العظيمة.. تلك الفضاءات التي تمنح الفرح والكآبة في ذات الوقت ودونما فاصل لتبديل ملابس العرض.
وربما ما زالت روحها تقيم في شجرة مانجو أو لبخ خضراء وروحي عادت لتسكننني.. ووجدتني أتفق معها في كل التفاصيل حتى الصغير منها المهم أني لن أخاف منها الخذلان.
وفي المرة القادمة وعندما تريد فرجينا أن تموت مثلاً، فسأمنحها موتاً بطريقة أكثر دهشة.. ولن تكون بحاجة إلى تلك الديباجة الطويلة، ولا أن تضع بضعة حجارة داخل معطفها وهي تهوي لقاع النهر (بعض الروايات تقول إنه كان حجراً واحداً) وسنفكر معاً في طريقة أكثر شاعرية والموت هو الختام الذي يظل طويلاً للتذكر.. الموت يستحق القليل من الجهد لأنه الخلود.
وحتى رسالة الوداع التي كتبتها لزوجها ما كان لها أن تكتب بهذه الطريقة البليدة: (عزيزي، أنا على يقين بأنني سأجن، ولا أظن بأننا قادرون على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى، كما ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة.. لقد بدأت أسمع أصواتاً وفقدت قدرتي على التركيز.. لذا، سأفعل ما أراه مناسباً.. لقد أشعرتني بسعادة عظيمة ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة كما شعرنا نحن الاثنين سوية، إلى أن حل بي هذا المرض الفظيع. لست قادرة على المقاومة بعد الآن، وأعلم أنني أفسد حياتك وبدوني ستحظى بحياة أفضل.. أنا متأكدة من ذلك، أترى؟.. لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ.. جل ما أريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي.. لقد كنت جيداً لي وصبوراً عليّ.. والجميع يعلم ذلك.. لو كان بإمكان أحد ما أن ينقذني فسيكون ذلك أنت.. فقدت كل شئ عدا يقيني بأنك شخص جيد.. لا أستطيع المضي في تخريب حياتك، ولا أظن أن أحداً شعر بالسعادة كما شعرنا بها).
ألا تلاحظون أنها طويلة قليلاً وربما بليدة؟.. لم تكن رسالة للوداع لكنها كانت رسالة أدبية للخلود رغم البلادة.. إنه غرور الجميلات.. وهذه صفة أخرى لأحبها أيضاً.. لأحب فرجينيا.
وفي المرة القادمة، وعندما تقرر أن تموت سنكتب معاً وبحروف مختصرة وقصيرة رسالة الوداع كأن نكتب مثلاً: (عزيزي أظن أن هذه الرحلة أصبحت مملة جداً وسامجة أيضاً وليس فرضاً عليك أن تتحملها من أجلي.. شكراً على كل ما قدمت لي وأنا وبطريقتي سأتدبر أمري والحياة لا توهب مرتين.. عش حياتك)، وقد اقترح عليها أن تكتب في نهاية الرسالة كلمة أحبك.. فصديقتي فرجينا لم تكتبها في المرة السابقة.
وربما نكتبها بطريقة أكثر شاعرية كأن نقول في رسالة الوداع: عزيزي تلك الأصوات التي كنت أسمعها غدت الآن أكثر وضوحاً.. إنها تستعجلني لأمضي إلى الجانب الآخر من الجبل.. سامحني سأجرب المضي وربما هناك ما يستحق.. وأعرف أنك ستغفر لي كما كنت تفعل دائماً)، وقد نكتب فقط (أنا تعبت).. هذا يكفي.. وبالطبع..نستطيع أن نكتب رسائل وداع أكثر حزناً.
لكن هذه لن تكون قضية كبيرة، وأنا ما عدت مهجوراً ولا وحيداً.. وأنا اليوم عاشق ومن زمن لن يتكرر.. زمن لم يكن يفترض الخذلان كخيار إلا عبر الموت وأنا أحب فرجينيا.. أنا أحب فرجينا التي تشبهها ولن تتكرر.
عمرو العامري - جدة