إبراهيم أمين فودة
321 صفحة من القطع الكبير
بهما سوياً يستمد الكائن الحي وجوده.. إذ لا حياة دون قلب ولا قلب دون حياة.. القلب حب.. والحياة حب.. هذا ما استشعره شاعرنا في دواخله وأفرد لنا ديواناً ضخماً نحاول معه أن نقرأه ونستقرئه.. ونستقي منه الصور، والعبر..
عن الهوى.. وما أدراك ما الهوى في سجل العاشقين رصد لنا تجربة فكر هي الشاغل لكل قلم من واقع معاش يتقاطع فيه الأمل بالألم.
حديث الهوى حلوٌ. ومرٌ. فحلوه
مذاق، وأما مره فسهاء
وعيش الهوى حلو. ومر فحلوه
وصال. وما مره فبعاد
ليس هذا فحسب.. وإنما الوفاء والجلاد.. والصبر.. والتضحية، والسهاد.. والرضى. والكره والبعاد.. جميعها ملازمة لمعايشة الحب لا يملك العاشق الانفكاك منها ولا التجاوز عنها.. حتى ساعة الحب لا تخلو من نبض حار يحمل الشكوى لصاحبه:
ما لي وللحب أعياني.. وعياني
به نعمت. وكم ذا منه أشقاني
ليت العواذل إذ لاموا وإذ حسدوا
ذاقوا الذي ذقت من مرّ فأضناني
كم ساعة عشت أحلام الزمان بها
وساعة جرعتني مر أزمان
عرفنا الحب معلوما.. فماذا عن حبه المجهول الذي أزرى به؟
يسائلني صحبي وقد طال عنهموه
غيابي.. إلى أين اتخذت طريقي؟
فقلت لهم.. أزوي في الحب بعدكم
فهِمتُ على وجهي بغير طريق!
فياليت من أهوى درى بمشاعري
وليتي على نسيانيه بمطيق
إذا لاجتمعنا. أو تفرق شملنا
وكلتاهما ادعى لفرجة ضيق
في كلتا الحالتين كان الخاسر الأكبر.. جهله من يهواه.. وعجز أن ينساه..
لعين عاشق نظرة لا تخطي.. لا تظل بليلها ولكنها أبدا لا تقدر على تحديد مسار رؤيته.. صوابها أو الخطأ جائز في عرف المحبين:
جلسنا كلانا صامت متزمت
فلا هي قالت لي، ولا قلتُ ما بنا
ولكن عينينا، وللعين لهجة
من القول. كانت كالمترجم بيننا
فحدثتها بالعين ما لو أردته
بيان لسان قصَّر النطق دوننا
وقلنا بها قولا دعته قلوبنا
بلا شفة منا، ولا أذىٍ لنا..
ألم يقل شاعرنا القديم عن لغة العيون القتالة وهي تتحدث في صمت؟!
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا. ثم لم يُحيين قتلانا
إنها سلاح أمضى من لغة النطق.. شاعرنا فرده وهو الخبير بأدبيات الحب حدثنا عن غربة الحب.. متى يغترب؟ ولماذا الغربة؟
حظي من الحب أحلام ملفقة
إن عاشت الليل ما عاشت ليوم غد
إنا لفي زمن أهل الغرام به
في غربة، ما لها عَود إلى بلد
لا يؤلفون. ولا يجتاز أنفسهم
ما يألف الناس كالأخداد في الغمد
تماماً كالوجبة السريعة الذي يتناولها آكلها وهو يمشي.. تأتي وجبة الحب سريعة إن لم تأكلها بحثت عنها فلا تجدها.. ومن غربة حبه يأخذنا معه نحو سر حياته:
وما معنى الحياة بغير هَمّ؟
وهل سر الحياة غذاء جسم؟
فما صحت حياة دون حب
إذا صحت معايير لفهم
وإن خلت القلوب فلا عقول
فجس القلب مصدر كل علم
نسي شاعرنا ما هو أهم.. وأجدى نفعاً.. وأدعى للسيطرة والتحكم.. إن العقل الذي يرسي قواعد الحب كما تأتي حبا لا مجرد نزوة عاطفة:
للحب صبابة لا تعترف بمعايير العمر.. لا تميز بفوارق السن.. لأن الحب وحدد وجود متى دقت نبضات القلب:
وقالت: «ما الذي تبغيه مني
وقد نفذ الشباب ولم أغنِّ»
فقلت: «مضى الصبا سعيا وكداً
فطاب لنا على الكبر التمني»
ومن ملأ الصبا هوىً، ولهوا
فقد يشقى به في مثل سني
ولكني وفرت لحظ يومي
صبابة مهجتي وعصار ذهني
وأعطيت الحياة ربيع عمري
لتخضب في المشيب ربيع ظني
ومن أعطى الحياة بغير منٍّ
ستعطيه الحياة بغير منٍّ
رائعة هذه المقطوعة ..
يرى الحب أخذ وعطاء.. إذ لا حب من طرف واحد:
أعطيك باليمنى. وآخذ باليسرى
إذ أنت من أعطى. وأنت بذا أدرى
هي الكأس لا كأس المدام وإنما
كؤوس الهوى حرَّى من الكبد الحرى
أتجاوز وإياكم الكثير من محطات شعرية لتشابهها.. فهي حب في حب ولكن بصياغات متعددة.. في محاولة لانتزاع ما يستجد من صور جديدة نثري بها هذه اللمسة لديوان شاعر متمكن في ثقافته الوجدانية والحياتية. وفي طول نفسه:
للحب مفهوم لديه جسدته هذه الأبيات:
إن كان حبك لي فاقد يرتجى
طمعا، فلا حب، ولا أشواق
أو كان حبك لي حديثا عابر
نلهو به.. فَلَكِ الحديث يُساق
الحب كنز لا يُباع ويُشترى
ثمن المحبة في القلوب عناق
ثمن المحبة في الدفاتر لا يُرى
ولقد يعز فدونه الأعناق
فإذا أفهمتِ الحب مثلي فاعلمي
أني المحب الواله المشتاق
أعطاه لنا مفهوما عقلانيا يقوم على الوفاق. والاتفاق لا رغبة في مادة، ولا جاه، ولا حسب ولا نسب.. وإنما مشاركة مباركة بين طرفين.. «نعم» أو «لا مفردتان تحملان الهم في قلب العشق حين تتأرجح المرئيات في عينيه فما يدري أهو الأنس براحة أم اليأس بمرارته:
اليأس إحدى الراحتين فجملي
باليأس قلبي بعد طول عناء
طال الرجاء. وأنتِ بين محبة
تهمي وشيء غاص طبي خفاء
وظللت بين الحالتين مُحيرا
حتى مللتُ على يديك رجائي
«الحب الولود» عنوان جديد.. ماذا يعني؟
وتسألني «أحبك مثل حبي
محب قبل؟ قلت» لأنتِ حبي
فإن الحب ما يلد المعاني
وليس الحب ان تبلى بصب
منحتيني بحبك كل معنى
وجدت الخير يعمر منه قلبي
فصرتُ بذاك قلبك فيَّ يحيا
وصرتِ حشاشتي وغذاء لبي
صور كثيرة لشاعرنا أودعها صومعة حبه حتى امتلأت وفاضت.. ومازال لديه منها المزيد والمزيد.. إنه يطعم الحب إفطارا وغداء. وعشاء وما بينهما ولكن بقدرة شاعر متمكن تملك ناصية الشعر فأجاد وأبدع.. لنستمع إليه في مقطوعة «وداع»
ودعتها وهي في جنبيَّ ساكنة
ما فارقتني ولا فارقتها أبدا
لله. ساكنة في القلب اسمعها
بالأذن، ابصرها بالعين دون مدى
لله، ساكنة عندي. وظاعنة
ما أبعدت موضعا عني وان بَعُدا
أكاد من نسج حس لا تغيب به
حولي امدُّ حواليها اليَّ يدا..
وأي وداع لساكنة القلب.. إنه الخوف على الحب من الحب..
وللوجد فلسفة في أبجديات شاعرنا وفي قاموسه:
وهجتكِ من نفسي الذي أنت أهله
ولم أرع ما قد كان من حقها عندي
وتهنت كِبر النفس. والحب عزه
عطاء بدنياه. يُرى غاية القصد
فبت شجي البال.. والحب شاغل
مُلحٌ إذا صح الغرام بمن تُفدى
وأحسبها مثلي على القرب والنوى
ويفضح ما تخفيه ما رغمها تبدي
وأعذرها حينا.. وأغضب تارة
ومقلب فيها - العقل - فلسفة الوجد
الحب كما يريده تسامح.. جامح الحب يجب أن يكون محكوم الحركة متزنها أخذا بشعرة معاوية شد وإرخاء.. وإرخاء فشد كي لا ينقطع الحبل..
«حياة في الشعر» غوص في الأعماق. إنها تسائله قائلة: «أمازلت شاعر غرام؟»
تسائلني والهوى كالنسيم
يداعب أكبادنا الحالمه
«أمازلت تنظم شعر الغرام
ولم تَروه لي.. وإلا فمه؟
وإلا هجرت القريض وعفتَ
الغناء فما عدت تنظم شعرا لمه؟»
فقلت لقد كنت في صور كالخيال
يطوف بأجفاننا النائمة
فأنقلها من بيوت الخيال
لبث القريض بأوتاره الناعمه
وعشت الحيقة بعد الخيال
على كفك الحلوة الناعمة
فلم اهجر الشعر. لكنني
أعيش مع الشعر في عالمه»
غريب أمرها.. ألم تقرأ ولو واحدة من مئات قصائده الوجدانية التي تكتظ وتضيق بها صفحات ديوانه الضخم «حياة وقلب» ربما.. لأنها هي الديوان الذي أملته عاطفتها.. ورصدته أناملها الناعمة.
شاعرنا هذه المرة يستعدي الحب:
تبلد حبي؟! أم وثقت بحبها؟
فخفف هذا لوعتي وشجوني
وكنت شجي البال والقلب بالهوى
تواكب عيني لهفتي وحنيني
أغالب أطراف النهار مواجعي
وأطلق في جوف الظلام أنيني
إذا ضمني ليل أهاج كرامتي
بياض ليال أشرقت بجبين
وأصحو فيعروني الفناجين لا أرى
سبيلا إلى لقاء تُقر عيوني
يطرق أبوابه بخطى وئيدة وموثقة. يغالب سهده ويبحث عن سمير يفضفض عنه شيئا من مواجعه:
فيا وجد سامرني. ويا صبر لا تطف
بقلبي. وهيِّج يا حنين كميني
ويا شوق سامرني. ويا نوم لا تزر
إذا لم تكن بالطيف فيك معيني
ما أقسى ليالي من اصطادهم الهيام بشراكه.. انهم يتأوهون على وسادة خالية إلا من الهم والضجر حين لا يجدون لصوتهم صدى. ولشكايتهم رجع يؤنس شيئاً من وحشتهم ووحدتهم..
تخيل عينيها مصباحا يكشف جهام الظلام:
يضيئ ظلام الليل لي نور عينها
وأحيا نهار الحب في صدرها الدافي
فلو قطع التيار عنا فإننا
على كهرباء الحب ننعم بالكافي
فيدفئنا في القر وقذ غرامنا
ويبردنا في القيظ من برده الشافي
اكتفاء ذاتي لا فواتير له تدفع.. هكذا شعلة الحب حين تتوقد تضيء حينا.. وتحرق أحياناً..
الحب موقف.. هذا ما أقدم عليه في مواجهة من تكأ جراحه.. وأيقظ ألمه: يقول شاعرنا:
جاءت بما نكأ الجراح. وايقظت
ألما بنيت عليه كهف ضلوعي
واحترت بين سجيتي ومشاعري
فحبست أنفاسي وصنت دموعي
إنه كبرياء الحب الذي لا يخدش ولا يؤذي..
حين لا يرضى العقل تبدو الصورة مقلوبة ومشوهة:
كلا جانبي امري مرير وان يحلو
أمرُّها الأحلى. وأشقاهما الوصل
فلا الهجر يسقيني ولا الوصل مسعدي
ولا شاقني فجر. ولم يرحم الليل
وابلغ ما عانى الفتى من شئونه
غرام تساوى العلم فيه أو الجهل
فلا العدل مقبول. ولا الصمت عاذر
ولا منقذي فعل ولا مسعدي قول
لك الله من قلب أضر الهوى به
فلا نعمة تمت. ولا رضي العقل
أخيراً مع الحب كما عرفنا عليه شاعرنا:
هذا هو الحب لا مين ولا كدر
فليسعد القلب فيما يسعد البصر
هي المقادير ان اعطت فما بخلت
بل أغدقت فوق ما نرجو وننتظر
يا نزوة النفس حتى ما كأن بها
لغير ذاتك لا سمع. ولا نظر
وثروة القلب حتى صار نهر هوى
يكاد يشرب منه الكون والبشر
وثروة الفكر حتى كدت أحسبه
وحيا ينزله من عنده المقدر
هكذا رسم لنا صورة الحب من خلال إطارها الحي.. وكما يوحي به الواقع.. وتأتي به المقادير لا سلطة لأحد عليه إلا في حدود المتاح.. إنه النصيب الذي لا نملك تغيير مسارة ولا اطفاء ضوء نهاره.. ولا ترويض رمضاء دياره.. الأقدام العارية تقف عند أول منعطف..
وبعد: هذا هو شاعر الوجدان والوجد إبراهيم أمين فودة وقد فرد لنا سويا جناحي طيره الذي غرد وتمرد. وعزف على أوتار قيثاره لحونا مليئة بالحب وبالصب لامست شغاف قلوبنا.. كان لنا جيمعاً رفيق سفر.. وسفير حب مليء بالمواجهات والمفاجآت التي لا تمل..
- الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 ـ فاكس 2053338