يتحسس الإصدار الأول للقاص زكريا العباد «وجوه»، بعض هموم الإنسان الكادح وأزماته بتنويعاتها المختلفة: النفسية والروحية والفكرية أيضا إضافة إلى توصيف العلاقة الجدلية مع المرأة بالتعاطف معها تارة وتجريمها أخرى، حيث تشكل جملة التجاذبات معها أزمة لا تحل، محاولا عبر نصوص المجموعة البحث مع القارئ عن إجابات لأسئلة وجودية ملحة تنتاب أبطاله. كما يعمل من جانب آخر على تفكيك أزمات الشخوص في بعض نصوصه ومحاولة فهم أسبابها وتداعياتها. وتضم المجموعة التي جاءت في 76 صفحة من القطع المتوسط عشر قصص قصيرة إضافة إلى 7 قصص قصيرة جدا تبدو من تجاربه الأخيرة.
وتحمل قصص المجموعة عناوين مثل: «سجن الصورة»، «وجوه»، «رائحة فمها»، «فضاء مغلق»، «شق»، «جولة في مكان قديم»، رمح يهذي»، «مروحة»،» لا شيء حدث»، «هذيان طويل». فيما حملت القصص القصيرة جدا عناوين هي: «وارث الظل»، «سرقة»، «شرك، «النهاية»، «متسول»، شفاه»، «شوكة أعمى». وتناقش نصوص المجموعة التي لا تخلو من نفس فلسفي وشطحات شاعر جملة من القضايا الاجتماعية الشائكة، وعلى رأسها العلاقة الجدلية الأزلية القائمة بين المرأة والرجل التي تجيء دائما في قصص العباد بصورة صراع وأزمة لا تشهد في الغالب انفراجا. وتنحو موضوعات نصوص أخرى منحى إنسانيا جميلا وذلك من خلال تعبيرها عن هموم ذوي الاحتياجات الخاصة كما في قصتي «فضاء مغلق»، وبعض جوانب من قصة «وجوه»، وتعبر قصص أخرى عن هموم الشباب والمواطن الكادح مركزه في جوانب عديدة منها على استجلاء الجانب النفسي للشخوص.
حيث توجز قصة: «سجن الصورة»، بتكثيف عال أزمة شاب يخنقه طيف علاقة سابقة انعقدت بينه وبين امرأة يمعن في تجريمها وتجريم علاقته بها دون أن يطلعنا القاص على أسباب ذلك تاركا إياها مشرعة لتكهنات المتلقي.
وفي القصة التي تحمل عنوان المجموعة «وجوه»، تتجلى اللغة الشاعرية للسارد منسجمة وأجواء الحكاية و(زمكانية) السرد: «بدا لي الليلُ وكأنه يختنق بصمت طالما سرّبه الأزل من كوى مجهولة، خيّل لي بأني لمحت في قسمات السماء طلبا ملحاً بأن نبدد ثقل الصمت الرازح على صدره ببعض الأحاديث». وهي قصة تعبر عن شخصية بطل تستغرقه لعبة محاولة الإمساك بخيوط الشبه بين الأشخاص القريبين منه ليس على الصعيد الشكلي والخارجي كما قد يتبدى من العنوان «وجوه»، وإن انطلقت منه خيوط السرد كصنارة لالتقاط القارئ وإنما أيضا على أصعدة أخرى أبعد ساحلا وأكثر عمقا ترتبط في أحد جوانبها بالشخصي والأسري والنفسي كذلك. غير أن الخاتمة تجيء مرتكزة على إثارة دهشة القارئ وتساؤلاته.
فيما توغل القصة الثالثة «رائحة فمها»، في رسم فصول حكاية بطل مع سيدتين، الأولى تريده وهو لا يريدها والثانية يريدها وهي لا تريده، وتبدو حبكة القصة ذكية وهيكليتها مبنية على معرفة بطبائع النفوس وما يعتريها من ردات فعل نفسية حيال ما تقبل عليه وما تدبر عنه. ويتقن السارد في «فضاء مغلق»، محاولة التصعيد الدرامي وخلق توتر جاذب يمضي بالقارئ بعيدا حتى ختام القصة التي تتفرد بسرد معاناة كفيف يعيش سأم الحياة وقلة متنفسات المبصرين كما تتعرض لجانب اجتماعي عصري مهم وهو طبيعة العلاقات الشائكة التي تنشأ في الظل بين الجنسين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وما يكتنفها ويحيط ببعضها من شكوك وعبثية.
وفي قصته «شق»، يعود السارد لتوصيف علاقة الرجل بالأنثى باعتبارها أزمة غير قابلة للانفراج وعملية سالبة يصعب زحزحتها للجانب الموجب المضيء كما هو الحال في غالبية نصوص المجموعة.
وتبدو قصة «جولة في مكان قديم»، رحلة صادقة للتفتيش في دفاتر كاتب هو في حقيقته العميقة/ فلاح في أرضه، ويحتسب للقاص نجاحه في إمحاء الحدود الفاصلة بينهما حتى يتماهيا حد الدهشة.
ويلجأ القاص إلى كسر إيقاع سرد النصوص بضمير المتكلم في قصته «رمح يهذي»، لاجئا هذه المرة إلى ضمير الغائب في نص يميل للاستطراد. فيما تنزح قصة «مروحة»، لأنسنة العلاقة القائمة بين شاب ومروحة السقف التي تعلو فراشه بلغة وصفية وحوارية جميلة تكشف في الآن نفسه عن تأزم علاقته بجهة تعليمه، وافتقاده للحنان الذي يبحث عنه في جماد لا يلبث أن يؤدي اهماله له لغضبه هو الآخر وسقوطه لتتهشم العلاقة المتخيلة.
وتحكي «لا شيء حدث»، معاناة أم تجبرها المجاملات الاجتماعية الأسرية على الدفع بها لمشاركة الآخرين في ممارسة العنف النفسي تجاه ذاتها، وذلك في سبيل إرضاء الآخرين، فتشهد بذلك زواج زوج ابنتها الراحلة التي لم تبرد ذكراها بعد من أخرى، الأمر الذي يفيض عليها بالذكريات واستعادة قصة الابنة الراحلة بتلوناتها في لحظة تدفع ثمنها النفسي غاليا لتشهد فقط بهجة الآخرين كقربان آل على نفسه التضحية على أمل أن يسعد غيره.
وهي قصة تدعوك للتعاطف كثيرا مع الأم المغلوبة على أمرها المسلوبة الإرادة تحت طائلة القيام بواجب وتجريم الإيغال في عدم مراعاة مشاعر الأمومة الجريحة.. ويزج بك نص «هذيان طويل»، في أتون أجواء فلسفية صوفية شعرية حارقة يصعب عليك بسهولة الانفلات من بوتقتها، فيما تأتي النصوص القصيرة جدا مكثفة وواعية ودون زيادات تذكر لتنبئ عن مرحلة جديدة للقاص تشهد بقدرته على الانتقال بقارئه من مرحلة التداعي والأسلوب السردي الروائي إلى مرحلة التكثيف والإيجاز.
شمس علي - الدمام