ربما تكون نظرتي للحياة تشاؤمية في كثير من الأحيان كما يقول بعض أصدقائي المقرّبين، وهي نظرة ناتجة عن إطالة تمعّني في وجه الحياة بعد غسله بمياهي الخاصة، التي أزالتْ عنه كلَّ ما وُضع عليه من مساحيق التجميل.
ومن هذا التأمل الطويل لحياة البشر وما يحيط بهم في عصور وأماكن كثيرة متباعدة، وصلتُ إلى قناعتي الكبيرة بأن الإنسانَ لم يخلق للسعادة الأكيدة كما يتوهم البعض، بل خلق للكبد والنكد والتعاسة والحيرة والاضطراب والشقاء في غالب أحواله.
ولذلك قلتُ غير مرة بعدة صياغات ما معناه: قد يتحقق للإنسان قدرٌ من السعادة، إذا أوحى لنفسه أنه سعيد، مهما كانت ظروفه وأحواله. أما السعادة التامة التي ينشدها كلُّ البشر منذ فجر البشرية حتى اليوم، فلم يصلها أحدٌ في ظنّي، ولا يمكن -عندي- أن تتحقق لأي إنسان، مهما بحث عنها وركض خلف سرابها؛ لأني أرى في الأصل أن الإنسانَ كائنٌ مسكينٌ بائس منذ القدم.. وأعتقدُ أن الزمنَ سيخبرُ كلَّ من يختلف معي في هذا أن رأيي صواب، وأن الإنسانَ كائنٌ بائسٌ مسكين.. ربما يتأخر البلاغ؛ ولكنه حتميٌّ إن طال عمره، أي عمر المختلف معي.
وتتفق معي في هذه الرؤية كثيرٌ من النصوص المقدَّسة في كثير من الأديان والفلسفات الدينية وغيرها، ففي الإسلام نجد المعنى واضحًا في القرآن الكريم، في عدد من الآيات منها: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ).
أما اليهودية والمسيحية، فقد بحثتُ سابقًا بعمقٍ موضوعَ عقيدة الخلاص، أو فكرة (المخلّص)، ووصلتُ إلى أن الزبدة هي أن الفرق والمذاهب اليهودية والمسيحية تتفق -رغم اختلافها في كثير من جزئيات هذا الموضوع- على أن الإنسانَ شقيٌّ معذبٌ ينتظر الخلاصَ والمخلّص، وأن أسباب شقائه كثيرة وأهمها الظلم والجور والخطايا المنتشرة في الأرض.. وغير ذلك.. وتتفق معها في هذا أيضًا فرقٌ دينية أخرى في الإسلام وغيره من الأديان، بمسميات مختلفة كالمهدي المنتظر مثلا، الذي يرون أنه سيخرج في آخر الزمان فيبايَع ويقيم العدل بين الناس.
ففي سفر المزامير مثلاً نجد نصًا واضحَ الدلالة في الاعتراف بأن الإنسانَ شقيٌّ متعبٌ ينتظر التخليص، وهو: «إِنِّي بائِسٌ مُتَوَجِّعٌ فلْيَحمِني خَلاصُكَ يا الله» وورد في مراجع أخرى: «إني بائس ومسكين، فليعضدني خلاصك يا الله».
ومن المناسب هنا أن أورد قصة جميلة هامة، تلامس بقوة موضوعي، تواترتْ في تأكيدها مصادر كثيرة موثوقة، عن نشأة الديانة أو الفلسفة البوذية، تفسّر لنا السبب الحقيقي الذي جعل «بوذا» يسير في هذا الطريق، أعني طريق الفلسفة التأملية الهادفة للقضاء على معانيات البشر.
وقد صغتُ القصة بأسلوبي صياغة مختصرة مفيدة تلخص غالب ما ورد عنها، خصيصًا لقرّاء «الثقافية» فجاءت هكذا: وُلد بوذا فوجد نفسه ابنًا لملك عظيم يحكم إمارة غنية.. وكان هذا الأب السيد، يغدق على ابنه من كل الثروات ويسهل له الحصول والوصول إلى كل ما يشتهي من ملذات ومتع الحياة، من سكن القصور وأجمل النساء والخادمات والأموال الطائلة؛ ليبعده عن التفكير في الآلام والصعاب ورؤية الوجه الآخر للحياة؛ لأن هذا الملك كان يعلم أن ابنه إذا أدرك شرور ومصائب الدنيا، قد يبتعد عن الملك والدعة والبذخ، ويتجه إلى التقشف والزهد والحزن والآلام كما حدث لغيره، وهذا ما لم يكن يريده هذا الملك.
ولكن هذه الحيلة لم تنطلِ على بوذا الشاب، الذي شعر بخداع والده له، فقد كان يشاهد أثناء تجوله بعربته الفارهة التي تجرّها الجياد كثيرًا من صور معانيات ومتاعب الناس، وكان يسأل سائق العربة كلما مرَّ بموقف لكبير سن يعاني من آثار الشيخوخة مثلا، أو بموقفٍ لمريض يكابد ويلات المرض، أو بموقف فقير لا يجد قوت يومه.. وما شابه ذلك من أشكال المتاعب.
وكان هذا السائق يجيب بوذا بإجابات من قبيل: «أنتم يا سيدي ونحن أيضا جميعنا من نوع قُدّر عليه الألم والتعب.. قُدِّرَ عليه أن يشيخ ويمرض ويموت ويكابد».
وفي يوم من الأيام: مرَّ بوذا بعربته على رجل حليق الرأس تظهر عليه ملامح المتقشفين المتنسكين، من هدوء وسكينة وسلام داخلي، ويلبس ثوبا أصفر اللون، ويبدو قانعًا وفي حالة تصالح مع نفسه.
فسأل بوذا سائق عربته عن هذا الشخص، السائق: إنه من الأشخاص الذين «مضوا قدمًا» يا سيدي، فألحَّ الفضول على بوذا واقترب من الناسك وسأله: لماذا أيها المعلم يختلف رأسك عن رؤوس الآخرين وكذلك ملابسك لماذا ليست كملابسهم؟. فقال الناسك: أنا يا بني شخص مضى قدما. .فقال بوذا: ما معنى هذا؟ فأجابه الرجل: أي أنني أصبحتُ متعمقاً في التجارب والتأمل والحياة الدينية، وضليعًا في الأعمال الحسنة، ومحبًا ومُكثرًا من سلوك الخير والطريق الأفضل من خلال خبراتي، التي علمتني أن أفضلَ حياةٍ هي أن لا يتأذّى منّي أحد، وأن أشفق على كل كائن أراه حولي.
تأثر بوذا كثيرًا بهذا الموقف، وأمر سائقه على الفور بالعودة إلى القصر، وأعلن أنه قرر أن يعيش بطريقة مشابهة، فحلق رأسه، ولبس ثياب النساك، ولم يعد يكترث كثيرًا بمباهج الدنيا.. ثم بدأ يزيد من التأمل تدريجيًا، حتى وصل إلى مرحلة الاعتكاف في تأمل «المعاناة» بكل أشكالها وصورها التي عرفها، ومن هنا انطلقتْ فلسفته -أو نبوته كما يرى البعض-، فكانت رسالته هي بذل أقصى الجهود لوقف كل معاناة أو التقليل منها قدر المستطاع، فشاع ذكره وذاع صيته، وبدأتْ من هنا أول الخيوط التي نُسجت منها الفلسفة البوذية.
وإذا اتجهنا للحضارات العربية القديمة في بلاد وادي الرافدين تحديدًا، فسيتضح لنا من تأمل الفكر البابلي أن علاقة البابلي بالآلهة شابها كثير من التوتر، نتيجة لاقتناعه بوجود قدر كبير من التعاسة والشقاء في حياته، حيث انتشرتْ القناعة بينهم بأن الآلهة تنقض وعودها، فقد ساد بين البابليين بقوة أن آلهتهم -في ذلك الزمن- تغدر وتمكر وتخون، مما أفقد الآلهة كثيرًا من قيمتها وقدسيتها ومصداقيتها بينهم من جهة.. ومن جهة ثانية: أدّتْ هذه النظرة إلى قلق الإنسان البابلي وتعبه ومعاناته الواضحة مثلا في نصوصه الأدبية، حيث كرر شعراء الملاحم البابلية أفكارًا من قبيل الاعتراض على تصرفات الآلهة، فالإنسان منهم -حتى الكبار والملوك- يُقدِّم أحيانًا كلَّ ما تطلبه الآلهة منه في تشريعاتها وتعاليمها وأوامرها، ويلتزم بكل ما يحثه عليه رجال الدين والكهان من توجيهات؛ ولكنه في النهاية لا يجني –في أحيان كثيرة- إلا المصائب والكوارث والسلبيات والمعانيات المختلفة في حياته. ومن هنا ظهرتْ قناعتهم بأن الآلهة ليست كلّها طيبة عادلة خيرة، فهناك آلهة شريرة ظالمة لا تمد لهم يد العون مهما قدموا لها، بل على العكس تماما.
ومن أبرز تلك النصوص كمثال، القصيدة التي نظمها «أوبيب» عن الإنسان البابلي، وهي قصيدة تُصوّر حكاية إنسان مطيع للآلهة، ولا يمارس أية سلوكيات محرمة أو تمنعها الآلهة، ولكنه في النهاية لا يجد إلا العقاب والعذاب بدلا من النعيم والثواب، ويختصر هذا البيت الوارد فيها كثيرا من الكلام عنها، حيث يقول: لا يعرف قلبي أي الخطايا اقترفت لأشقى.. إن الإنسان يقترف الذنوب دون معرفة حقيقية.
وإذا اتجهنا للسومريين، فسنجد لديهم نصوصًا مقاربة لهذه النصوص البابلية، حول اشتراك البشر في هذه المشاعر المقلقة المرهقة، ومن تلك النصوص السومرية مثلا قصيدة (الإنسان والإله) التي تتوافق في أفكارها الرئيسية مع النص البابلي السابق، حيث يطلب الشاعر السومري فيها رضا الإله ويأمل أن يفوز برحمته، فهي شكوى عميقة لعذاباته في الحياة، وقلقه ونكده وكبده الذي لا ينتهي.
كانت تلك التوطئة مهمة في نظري، قبل أن ألج إلى صلب موضوع «الهدوء والضحك» وكيف أنظر إليه بوصفه مزيجًا يُشكّل صورة الأسلوب المفضّل عندي لتحقيق شيء من الراحة والسعادة، في حياة الفرد من هذا النوع الإنساني الشقيِّ المتعبِ الذي وُجد في كبد ونكد.
السؤال المهم الآن: هل يعني كل ما أوردته أن نستسلم لهذه الرؤى والتصورات أو لهذا الشعور شبه المتفق عليه عند كثير من الحكماء والفلاسفة ورجال الأديان، وهو أن حياة الإنسان حياة شقاء وعناء وقسوات ومعانيات لا متناهية، فنعيش في الهم والغم والكآبة، مرددين قول الأول:
طُبِعَـتْ على كَدَرٍ وأنت تريدها، صفواً من الأقذاءِ والأكدارِ
ومرددين قبله قول فيلسوف معرّة النعمان وأديبها الكبير إمام العقل شيخنا أبي العلاء تقدّستْ روحه:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ
إلا من راغبٍ في ازديادِ
إنّ حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرورٍ في ساعة الميلادِ
وستستغرقُ الإجابةُ عن هذا السؤال كاملَ الجزء الثاني من هذه المقالة إن شاء الله.
وائل القاسم - الرياض