انشغلت القنوات الفضائية الهولندية يوم الجمعة الثالث عشر من شهر فبراير 2015 ببث مشاهد طولها عشر ثوان تم العثور عليها في مكتب أحد الأشخاص في علبة سينمائية قياس 16 ملمتراً، وعندما فتحت وشوهدت كان فيها موقع هولندي مهدم بسبب قصف واحتلال القوات النازية لهولندا أبان الحرب العالمية الثانية. وبعد أن اكتشفت هذه الوثيقة السينمائية وشاهدها أحد المسنين، فإنه فتح علبة من الصفيح كان يحتفظ بداخلها لعدد من البطاقات بقياس 13 – 18 سنتمتراً وقد رسمها بنفسه لذلك الخراب ولضحاياه من سكان المنطقة وللبيوت التي تهدمت إذ لم تكن بحوزته كاميرا في ذلك الوقت. والغريب أنه رسمها بطريقة فيها الكثير من الدقة والتعبير، فهي مزيج بين طريقة التشكيل الاستشراقية وبين التعبيرية، وكانت صوره تلك التي يفصح عنها لأول مرة متطابقة مع المشاهد السينمائية التي لا يعرف أحد من صورها ومن قام بتحميضها وطبعها في ذلك الوقت على شريط سينمائي!
منذ أعوام التسعينات من القرن الماضي كانت أوربا أتخذت قراراً بترميم كل تاريخها المرئي وجمعه وأرشفته بطريقة علمية، وتحويله من فورمات سينمائية إلى فورمات رقمية. وبسبب حجم التاريخ وتنوعه بين الحروب والحياة الثقافية والاجتماعية قبل تنامي القنوات الفضائية التي صارت توثق في مخزونها كل معالم الحياة. وبسبب حجم المواد المصورة وندرتها فلقد تم توزيعها على الستوديوهات السينمائية كافة للقيام بعملية تحسين الصورة وتوقيتها وترتيشها وتضميد كل جروح وخدوش تلك الوثائق السينمائية.
بعد الحرب العالمية الثانية والعالم يلملم أشلاء الضحايا من البشر والأشياء، تم العثور على ثلاثمائة وأربعين كاميرا سينمائية مرمية في ساحات المعارك لا أحد يعرف مصوريها! كان المصورون الذين تنتمي إليهم تلك الكاميرات وما في داخلها من أفلام غير معروفين، فهم ضمن جثث الجنود المجهولين. تم نقل الكاميرات بمخازنها المغلقة وأرسلت إلى مخابر التحميض وكانت المواد المصورة فيها توضح في نهايتها لحظة موت المصور، إذ كان يكبس على زر التصوير لحظة موته، فتم تصوير قاتله والذي كان يطلق عليه النار أو لحظة سقوط قذيفة عليه أو قربه. ثلاثمائة وأربعون مصوراً صوروا بشجاعة نادرة واقع الحرب، كذلك صوروا قاتليهم في لحظة واحدة. ويحتفظ العالم في مكاتب أرشيفه تلك الكاميرات وما كانت تحتويه من الأفلام الوثائقية. شهود عيان ماتوا وما زالوا ينطقون عن الحقيقة عبر أفلامهم.
يوم الجمعة الثالث عشر من شهر فبراير 2015 احتفل العالم بمعرفة عشر ثوان إضافية عن الحرب وعن النازية وعن العار الإنساني متمثلاً بالحرب!
عشر ثوان فقط من التاريخ الإنساني.
عام 2013 ذهبت أبحث عن أفلامي التي أخرجتها في أعوام الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي القرن العشرين، فلم أعثر عليها لكنني عثرت على ألف وثلاثمائة وعشرين ساعة سينمائية مصورة بقياس 35 ملمتراً، أي ما يساوي مليون وماتتي ألف متر سينمائي في صالة من بناية قديمة على نهر دجلة إنهار السقف فوقها وبقيت منذ ثماني سنوات حتى دخولي العراق تحت الأنقاض ينزل عليها المطر ويحول الأتربة إلى طين شتاء وترتفع درجة الحرارة صيفاً لتصل إلى الخمسين والأفلام داخل علب من الصفيح، فيما الطبيعي أن تحفظ الأفلام السينمائية بدرجة حرارة تسع عشرة درجة مئوية ثابتة صيفاً وشتاء حتى يمكن المحافظة على نوعية الصورة.
وقفت أمام الصالة المهدمة وكل تاريخنا العراقي تالف منذ الحقبة الملكية مروراً بالثورات والمتغيرات السياسية. كل الذي عملته أني تمكنت من جلب شاحنات لتحميل آلاف العلب السينمائية وجلبت عمالاً يمسحون عن العلب الطين والغبار ويحملونها في تلك السيارات إلى صالة غير نظامية ولكن في الأقل فيها سقف وبنينا رفوفاً وضعنا فوقها العلب الصدئة تمهيداً لعمل شيء أعرفه ولا أعرف طريق الوصول إليه.
ألف وثلاثمائة وعشرون ساعة من تاريخ ثري لا أحد يعرف تفاصيلها تحت الصخور والأطيان، فيما هولندا تحتفل بالعثور على عشر ثوان من تاريخها!
وتحتفل على مدى يوم كامل.. والأجمل أن شخصاً مجهولاً كان قد رسم كمية من اللوحات متطابقة بطريق الصدفة وطريق الحقيقة مع تلك الثواني العشر! مجداً للشعوب التي تحترم تاريخها!
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com