بداخل كل منا بيت يصغر أو يكبر، حلمًا أو حقيقة، نطليه بألواننا المفضلة ونعلق على جدرانه لقطاتنا التي نحب، ونختار لبابه مقبضًا قويًا مثل حارس مغارة علي بابا، لحفظ أرواحنا من الانسلال خارج المكان والزمان، رغم أننا نحلق بعيدًا لكننا نعود مثلما كان يفعل حمام المدينة كل غروب! سمت أختي منزلنا منزل الفراشات ذات صيف، ربما لأن أمي كانت تتفاءل بسماع نبأٍ سعيد كلما رأت فراشة ترف بجناحيها في باحة البيت الذي تغلفه السكينة مثل فقاعةٍ شفافةٍ تغري هذه الكائنات بزيارته لأن قلب أبي الأبيض-رحمه الله- كان رفيقًا بها.
لم يسبق لي أن حصلت على بيت الدمى، لم أكن بحاجة إليه لأني كنت أخترع بيتي الذي أحمله معي في كل مكان مثلما تفعل السلحفاة الحكيمة، ولم أشغل بالي إن كان مبنيًا من قش أو خشب أو قرميد كما اختارت العنزات الثلاث، رغم أني حقًا لا أمانع في أن يكون مصنوعًا من الحلوى مثل بيت ساحرة هانزل وجريتل، المهم أنه يحملني وأحمله في علاقةٍ تبادلية متكافئةٍ، وإن كنت أشك أنني أحبه أكثر مما يفعل.
كلنا، بفعل وقوعنا تحت تأثير الأفلام الكارتونية، كنا نرسم بيتًا بسيطًا بعلّية تأخذ شكل المثلث، وعلى سطحه مدخنةٌ تنفث بعض الدخان، لنؤكد أننا نعيش حياةً هناك في الداخل، فهذا دخان المدفأة أو الموقد الذي نضع عليه قدر الحساء استعدادًا لوجبة العشاء، بعد عودتنا من المروج -هذا يذكر كثيرًا بهايدي وجدها الذي يسكن منعزلاً عن الناس- أظننا كنا نعبر عن رغبتنا في الحصول على منزل مثل ذاك، كل شيء فيه سهل المنال إلا هو نفسه!
أخيرًا تقلص الوطن الذي لم يعد أكثر من أربع زوايا قائمة صلبة لا تهتز لأنها بعيدة عن مرمى آلة النار، لم يعد يعنينا كثيرًا لون الجدران أو الستائر أو حتى عدد الطوابق التي علينا أن نصعدها وصولاً إلى باب البيت، وطني الصغير الآن ليس أكثر من حبة كستناء دافئة!
«تسأل: ما معنى كلمة وطن؟
سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز والسماء الأولى.
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات، وتضيق بنا؟»
محمود درويش
بثينة الإبراهيم - القاهرة