ولد الفرنسي جون باتيست موكلان (موليير) في يناير من العام 1622 وتوفي في فبراير من العام 1673 ولا يراه العارفون بشعره وأدبه ومسرحه إلا الامتداد الحقيقي لمشروع الإنكليزي وليم شكسبير (1564 – 1616)، حيث حاول في ذلك الزمان كثيرٌ من الشعراء المبدعين بمختلف اللغات في العالم أن يخطوا خطى شكسبير بعد رحيله غير أن موليير كان الأكثر صدقاً وإخلاصاً طموحاً للمشروع الشعري الأدبي المسرحي حتى أكاد أراه أكثر من شكسبير نفسه تفانياً وانشغالاً، غير أن التمثيل والإخراج قد طغيا على جل اهتمامه واستنفدا من طاقته ما لم يتح لعمل الكتابة الأدبية الإبداعية شعراً لديه غير الثانوي من نشاطه الخارق الذي غدا به في مطلع الخمسين من عمره منهكاً حتى أطاح به ميتاً من التعب بعد تقديم آخر مسرحياته (المريض الوهمي) في عرضها الرابع أمام الجمهور.
قبل عام ونصف، تقريباً، اقترحت وزيرة التعليم العالي الفرنسية (جونافييف فيوراسو)، أمام البرلمان الفرنسي، السماح باعتماد تدريس بعض المقررات العلمية في الجامعات الفرنسية باللغة الإنجليزية.. وقد أثار ذلك الاقتراح حفيظة المثقفين الفرنسيين الذين اعتبروه ينتصر للغة شكسبير على حساب لغة موليير. وهبّوا لطرح مقاربات وتنظيرات لإثبات تفوّق موليير باللغة الفرنسية والسمو بها إلى تجليات تفوق ما أحدثه شكسبير في اللغة الإنكليزية. ثم إنهم اعتبروا اقتراح الوزيرة خيانة للغة الفرنسية التي تحتاج إلى حماية من سطوة اللغة الإنكليزية المحتكرة لمعظم العلوم في مختلف دول قارات العالم بأسره.
كل ذلك يدعونا لشيء من التأمل وكثير من الإعجاب: لغة شاعر أديب قصصي مسرحي تقابلها - بعد أن تبعتها - لغة شاعر أديب قصصي مسرحي، وخلف كل من اللغتين شعب في أعلى مستويات الحضارة المدنية والتطور اللغوي الحاضن لمختلف أشكال الفنون والإبداعات والعلوم الفكرية.. وكل ذلك بمنأى عن القرارات الرسمية والإرشادات السلطوية، وأحياناً بتصادم شديد مع الجهتين، وليس أدل على ذلك من رفض الكنيسة المسيحية دفن موليير في مقابر المسيحيين، بل المطالبة بحرق جثمانه لأنه مهرج وآثم بحسب رأي بعض القساوسة الفرنسيين آنذاك، لولا حدوث ما يشبه الاعتراض الشعبي الجماهيري العام أجبر السلطة العليا في البلاد على التدخل بالتفاوض من الملك لويس الرابع عشر مع كبار قساوسة الكنيسة حتى وافقوا على الدفن مشترطين عدم إقامة احتفالية له!
لم يبق من كل ذلك اليوم إلا اعتزاز الفرنسيين بشاعرهم موليير وبلغتهم الفرنسية التي يصفونها تفاخراً بأنها لغة موليير، والشيء نفسه تقريباً كان قد حدث في بلاد الإنكليز – إنجلترا - مع شاعرهم الحاضر في أدبيات العالم كله وسيظل حاضراً شكسبير.
تأكدت الأخبار قبل فترة قليلة أن الفرنسيين قد سلّموا بالأمر الواقع، وتم اعتماد تدريس بعض العلوم في الجامعات الفرنسية باللغة الإنجليزية، وبرزت عناوين الصحف العالمية معتبرة ذلك انتصاراً للغة شكسبير على لغة موليير. ولستُ أرى في ذلك الانتصار ما يغيّر من حقيقة اعتزاز كل شعب متحضر بشاعره الأكثر إبداعاً وإخلاصاً للغته والأكثر تأثيراً وخلوداً في الذائقة الأدبية على امتداد العالم والأزمنة. هل قلتُ كل شعب..؟!
ختاماً أقولُ: مهما نقرأ من قصائد ومسرحيات - ومأساويات - شكسبير، ومهما نقرأ من قصائد ومسرحيات - وكوميديات - موليير، مترجمة من لغتيهما الأصليتين إلى لغتنا العربية فلن نعرف جمالياتها الحقيقية أبداً. علينا إذاً أن نقرأ قصائد وآداب شعراء ومبدعي لغتنا المعاصرين جيداً، ونتساءل بشيء من المصارحة: لماذا اختفت المسرحيات الشعرية لدينا؟ هذا إن كان لها وجودٌ جماهيريٌّ فصيحٌ قبلاً!
ffnff69@hotmail.com
- الرياض