لقد شغلت قصيدة القطط لبودلير النقاد وكتب عنها كما يقال أكثر من أربعين ناقدا لعل من أهمهم رومان جاكبسون وليفي شتراوس وقد ترجم هذا التحليل المهم الأستاذ المعروف عبدالغني أبوالعزم واستطاع تجاوز ترجمات سابقة والإفادة منها في الوقت نفسه، وقد أبان التحليل اللساني دور نظام القصيدة في الكشف عن النظام الثابت الداخلي الذي تتحرك فيه البنية التي تتحرك في كل القصيدة من الداخل إلى الخارج من قطط منزوية إلى قطط منطلقة...، وعلاقة العشاق بالعلماء في القصيدة تشير إلى ارتباط العاشق بالمرأة وارتباط العالم بالكون وهي تلتقي فيما بينها في علاقة منمدجة ومنبسطة ولها نفس علاقة انقباض القطط وانبساطها في المكان والزمان... ويشير تحليل القصيدة إلى علاقة المرأة بالقط عند بودلير في وضع غامض وعميق... ولا أدري في الوقت نفسه كيف أشار ذلك عندي إلى ارتباط نص القطة والكلب بالمرأة في الحديثين الصحيحين المعروفين...
وعلى الرغم من أن هذه القصيدة لا تتجاوز بضعة أسطر فقد حار بعض الذين درسوا حياة الشاعر في طبيعة اهتمامه بالقطط في قصائده، كما حاروا أكثر في مدلولات الرمز في قصيدة القطط بالذات، والشيء الذي استوقفني أن القطط جعلت عند بعض الدارسين كرمز للديموقراطية عند الشاعر
واسمحوا لي أن أتداعى قليلا حول ما يثيره عندي لفظ (قطة) للوهلة الأولى..
وسوف أبدأ بهرير القطة الذي كان يقال لنا ونحن صغار في منطقتي (الباحة) إنها تراجع حفظها من القرآن!!، أما أسطورة السبع الأرواح فهي أسطورة عالمية... في حين أن الأشهر في ثقافتنا هي قصة المرأة التي دخلت النار في قطة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض...
هذه هي الهرة، ولكن السؤال الأصعب الآن هي ما قيمة الحيوانات الألفية بما فيها الهرر في مجتمعنا لهذا الوقت؟
إن من آثار الطفرة السريعة... إهمال الحيوانات الأليفة كالقطة والحمار والكلب أما الحيوانات الوحشية فقد دمر التقدم المطرد بيئتها الطبيعية وقضى على دورتها البيولوجية مما أدى إلى انقراض أغلبها...
وليت البلية وقفت عند هذا الحد بل فضحت وسائل التواصل الاجتماعي مقدار القسوة في التعامل مع الحيوان... ولذا بدأت أقارن بين حالنا مع الحيوان قبل الطفرة وبعدها فوجدت فضاء الإنسانية أرقى من قبل.. نعم كنا إنسانيين أثر حينما كانت الحيوانات تعيش بيننا (الحمام والدجاج والقطط والغنم والكلاب والحمير... إلخ) كنا نلمس إنسانيتنا في اختلافنا عن هذه الكائنات كما نلمسه في الوقت نفسه في الروح والحياة التي تجري دماؤها في وجوه تلك الحيوانات فنتعاطف معها ونحبها ونكرم الحياة فيها...
لكن ما يحدث الآن أن تفتش بيوتنا وشوارعنا لتبحث عن الحيوانات الأليفة فلا تكاد تجدها، بل تجدها سائبة مهملة مريضة معذبة مطاردة، وهنا تلمس التوحش الإنساني جليا في ابتعاد الإنسان عن فضاء صديقه الحيوان وتحوله إلى مادي قاسي القلب عنصري دكتاتوري.. وأعود إلى هرر بودلير التي هي رمز الديمقراطية لأجد أن أزهى العصور التي ابتهجت بها الحيوانات الأليفة بالحياة والكرامة هي عصور الديمقراطية في الغرب، أصبح لها حقوق، وأصبحت جزءا من الثقافة الديمقراطية، لتلك البلاد وأسهمت في زيادة إنسانية الغرب زيادة ملموسة ولم تكن مجرد نصوص تتخذ للجدل والحجاج المنطقي حول المرأة والهرة وحول المرأة والكلب أحدهما في الجنة والأخرى في النار لأجل التعامل اللا إنساني والتعامل الإنساني.. نعم هي نصوص تحفظ إيديولوجيا ولكنها لا تمارس عمليا من خلال أنظمة وقوانين وحقوق.. طالبت قبل أكثر من عشر سنوات بإنشاء جمعيات لحقوق الحيوان حينما رأيت قطا مسكينا مصابا جراء اصطدامه بسيارة لتقوم تلك الجمعيات بمساعدة الحيوانات ومعالجتها، فاتخذت سخريا في مجتمعي... ولم ينفذ شيء والعبارة الأكثر ترددا طالب أولا بجمعيات لحقوق الإنسان ثم انتقل إلى جمعيات لحقوق الحيوان!!، وفي نظري أنه لا فرق، ضعوا نظاما لجمعيات حقوق الحيوان ولا شك أنها خطوة سوف تتحقق في الإنسان عما قريب، بل إنها ستزيد من إنسانيتنا تلقائيا وهذا ما نريد حقاً.
ما يجعلني أقف وقفة طويلة متأملا هو ضحالة القيم الإنسانية في التعامل مع الحيوانات الأليفة في المجتمعات غير الديمقراطية، وأرجع مرة إلى بودلير الشاعر الإنساني الذي جعلته الأيديولوجيا الصحوية رمزا للحداثة الشيطانية لدينا في حين كانت قططه رمزا من رموز الديمقراطية ويعجبني في الوقت نفسه أن أعود إلى أحد العلماء الكبار في العصر الذهبي للحضارة العربية حين ارتفع منسوب الإنسانية في حضارتنا مؤقتا، فأجد أبياتا جميلة لأحمد بن فارس مؤلف كتاب الصاحبي والمجمل والمقاييس يلجأ إلى هرة «ديمقراطية» مستشرفا العصور السوداء المقبلة التي غرقنا فيها في الجهل والظلمات باسم الدين في أكثر الأحيان إلى أن وصلت الحال بنا إلى هذا التراكم من الفهم الداعشي الخارج عن المنطق والتأريخ والزمن للحياة والأحياء.
يقول ابن فارس قارنا بين (الهرة «النديمة» والنور «المعشوق» والكتاب)..
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا
عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي
دفاتر لي ومعشوقي السراج
وهذه بالمقابل قصيدة القطط التي ظهرت 1847م، من ترجمة الدكتور حامد طاهر، وله (بحث قيم عن صلة بودلير بالقطط أنصح بقراءته) ولكنها كتبت في الحقيقة 1840 كما ورد في تحليل القصيدة لرومان جاكبسون وكلود ليفي سترواس
القطط
العشاق الملتهبون والعلماء والعاكفون
يحبون أيضا في عمرهم الناضج
القطط القوية والوديعة، فخر المنازل التي تشبههم في الحساسية وإيثار الإقامة
أصدقاء العلم والشهوة
يبحثون عن الصمت، ورهبة الظلمات
وقد اتخذهم (إيريب) خدامه الجنائزيين
وعندما يتمكن من استعبادهم.. يحنون رؤوسهم!
إنهم يتخذون المواقف النبيلة، حالمين بأبي الهول الكبير المستلقي
في أعماق الوحدة
والذي يبدو دائما في حلم بلا نهاية
أصلابهم الخصبة ممتلئة بالشرارات السحرية وقطع من الذهب
مثل رمال رقيقة ترصع بالنجوم .. أحداقهم الصوفية.
د. جمعان عبد الكريم - الباحة