تشهد الرواية صراعًا بين العقل والسياسي (السيعقل)، وسبب هذا الصراع هو الحب، وذلك حينما وقف الحاجب/الغائب في الرواية حاجزًا بين بياض وحبيبته الجارية رياض، وألهب قلوب العاشقيْن مع عدم حضوره البتة في الرواية، وقد قامت (السيّدة) مقامه -ولعلها تكون ابنة الحاجب- في رفض التلاقي بين الحبيبين، والوسيطة بين الجميع هي تلك (العجوز البابلية) التي لا تريد من (بياض) أي شيء سوى متعتهم في التلاقي، ويظهر العقل هنا بصفته المخلّص من إشكال السياسي المانع للتلاقي بين العاشقيْن عبر تلك العجوز (العاقلة) والتي استطاعت توظيف العقل في دحض السياسي وانتصار بياض/الحب/العقل، فها هي توصي (بياض) حتى يظفر بحبيبته بقولها: «فإذا أنت حللت فيه (مجلس السيدة بحضور رياض) فاحكم لنفسك واملك عليها ملك من يحكم عقله، فإذا نظرتَ فليكن نظرك إلى السيدة وإليّ كأنك لا تجد في نفسك شيئًا، فخير الناس من قاس قبل القطع ودبّر قبل الفصل، فإذا رأيتَ محبوبتك رياض ذات وقار وصمت وحلم وسكون كالذي يظهر منها رجوتَها، وإنْ رأيتها خفيفة طياشة فلا تعلق بها نفسك واصرف عنها قلبك، فالعقل أحسن ما خُلق وخير ما العبد رُزق، فاحفظ وصيتي يا بياض» (بياض ورياض قصة من التراث العربي ص22)، فالعقل هنا بداية للحب، وبدايةً للكيد على السياسي، فهو شرط للظفر بالمحبوبة «فإذا رأيت محبوبتك ذات وقار وصمت وحلم وسكون كالذي يظهر منها رجوتَها «، وهو شرط للانتصار على السياسي «فإذا أنت حللت فيه (مجلس السيدة بحضور رياض) فاحكم لنفسك واملك عليها ملك من يحكم عقله»، فالعجوز هنا تمارس العقلانية وتحرض عليها، وتضرب السياسي بالعقل، وتدمغ السياسي/الأنثى باللاعقلانية حينما قالت للسيدة فيما بعد «ونحن نساء بالجملة ناقصات العقول بلا دالّة» (بياض ورياض ص65) فالعقل هنا تحول من كونه حاميًا باكتماله مع (بياض) حينما وصته به من قبل، إلى كونه حاميًا -أيضًا- لكن بنقصانه عند السياسي/السيدة ابنة السياسي/الحاجب.
ويستمر العقل في كونه سببًا للانتصار على السياسي حينما قبِلت (السيدة) دخول (بياض) عليهن مع الجواري بعد أنْ رأيْنَه من فوق الشجرة ووصفْنه للسيدة بأنه « ضيفًا مليحًا، صغير السن، بادي العقل، حسن الهئية « (بياض ورياض ص38)، فانتصر وحقق مراده في أول لقاءٍ له بـ(رياض)، وما كان لينتصر لولا أنه «بادي العقل»، فالعقل هنا جاء بمظهرٍ وجسد يمشي ليتفوق على السياسي الحاضر/السيدة والسياسي الغائب/الحاجب. وها هو يحضر أيضًا مع شعر بياض؛ فيُضحي شرطًا للشعر المجافي للعقل -غالبًا-، وذلك عندما طلبت إليه السيدة شيئًا من غنائه وشعره فقال: «ائذني لي أن أقول ما أدركته طاقتي، وبلغه فهمي وعقلي وفصيح كلامي» (بياض ورياض ص56).
والعقلانية المجسّدة هنا في (العجوز البابلية العراقية) مع (بياض الشامي) تنحى منحى توافقًا بين العراقية والشامي، بين العجوز وبياض، بين العقل وأثر العقل. ويكمن أوج العقلانية في العجوز المستشارة الخاصة لبياض والشخصية الرئيسة في الرواية، من حيث إنها تفلسف فطرة العقل الخيّرة التي ستقضي على سوءة السياسي الباطلة؛ فـ»العقول تُمنع عن الصنع في غير التمكين، والباطل ممنوع إدراكه، والواجب على ذوي الألباب مراجعة الحق والصبر عند اليأس» (بياض ورياض ص105).
ويحضر مثال (كتمان الحب) دليلًا على عقلانية البابلية، واستحضارها للكتمان منذ معرفتها بحب بياض لرياض، بل إنها بيّنت له سبب فشل حب العرب القدامى ككثيّر عزة وغيره بأنه كامنٌ في عدم الكتمان، وتتدرج هاته العقلانية أو المثال على العقلانية حتى نهاية الرواية بطرق شتى عبر حكَمٍ وأمثال ونصوص دينية تعمّق بها فكرتها في العقلانية/الكتمان.
فصراع العقل مع السياسي (السيْعَقل) في هاته الرواية تنوع بين القول والتجسيد والتمثيل حتى يغلبَ ويربح الكرّة عليه، لكن الرواية (للأسف) لم تكتمل بسبب ضياع أجزاء من آخر مخطوطتها لتبين لنا انتصار العقل، وهو ما أميل إليه، لأن العقل في الرواية غالبٌ منذ بدايتها ومنتصفها، وحاضرٌ بشتى صوره وأشكال؛ فقمنٌ أن ينتصر لو اكتملت. ولعل انتصاره في الرواية هنا يدحض خسرانه في رسالة (التوابع والزوابع) التي تستسلم فيه (الأوزة) العقل للعاطفة الشاعر، وتعلن خسارتها.
صالح بن سالم - المدينة المنورة