الوادي يتحول في الربيع إلى أغنية جبلية. أشاهد الكثير من الرجال والنساء في المصاطب الزراعية، أسير خلف والدي الذي يغذ السير نحو مزرعته المليئة بمحصول الذرة، كنت اعدّ هذا الموسم واحدا من مواسم الشبع حيث يمكن ملء البطن بالدجر أو حبيبات الذرة وأحيانا شواء طائر، وكذلك موسم مليء بالمفاجآت.. ذلك الطائر الأبيض الصَّغير شكلت معه صداقة يأتي في مثل هذا الموسم يقرر الأطفال صيده بوضع مصايد في مواقع استقرار هبوطه، وينجو بأعجوبة رصاصات الساكتون تحيد عن جسده الصَّغير يتماهى في الفضاء يفرد جناحيه ويعود مرة ثانية وثالثة هكذا حتى ينتهي الموسم، ليرحل ويظل ذكرى في أذهاننا، أحببته كأي شيء جميل ربما أحببته كيوم العيد كنت انتظر مجيئه كل موسم وها هو الآن بكامل أناقته أمامي على غصن شجرة الحماط نظرت إليه، ونظر إلي سررت شعرت بأن خيط ود بيننا، كنت أفسد محاولات أقراني لذا عاش حرا طليقا يفرد جناحيه متنقلا من مزرعة لأخرى ومن جبل لآخر يأكل ما يشاء بعدها يرحل.
زاد هيامي به مما ولد دافعا داخليا لصيده لم يحدث بل كنت استبعد أي فكرة تراودني، هذه المرة لاحت فكرة شيطانية هب ان هذا الطائر الأبيض الأنيق في صندوق خشبي. سوف تتوطد علاقة أكثر وسأمتع ناظري وأقدم له الطعام والماء وأبعد عنه محاولات اختطافه مني فكرة راقت لي، وبدأت اخطط هل أحمل بندقية شقيقي وأصوب الرصاصة على جسده ربما ترديه ميتا إذاً ماذا افعل؟ هل أضع طعما صغيرا تحت صفيحة حجرية لأخدعه؟ حين يهم بالتهام الدودة تطبق عليه المنسبة عندها سأضعه داخل الصندوق فكرة جيدة، لكن لنفترض ان الصفيحة الحجرية أصابته في جمجمته الصَّغيرة بعدها سيمرض ويموت ولا يمكن مشاهدته مرة ثانية، وبينما كنت أفكر في طريقة مناسبة سمعت صديقي يصرخ اصطدت الطائر الأبيض تحلقنا حوله نظرت في عيني الطائر كانتا حزينتين عن لي أنه يستنجد. قبضت على يدي صديقي لأحرر الطائر، انفلت في الفضاء القريب قفز عدة قفزات بعدها أفرد جناحيه نحو السماء. تحملت صفعة قوية من كفه، ورغم ذلك كنت في قرارة نفسي فرحا لما حدث، الطائر يُحلّق في الفضاء البعيد، كنا ننتظر قدومه في الموسم الآخر إلا أننا لم نره.
بقيت تلك الطيور الغبراء التي تزيد من بؤسنا حيث تنقض بين الحين والآخر على أكواز الذرة، لم تنفع معها راجمات الطيور أتشوق لان أملأ المرجمة بحجارة صغيرة عندها أديرها بشكل دائري لألف جسمي عدة لفات، عندها اقذف بما حوته المرجمة بفك أحد خيوطها وإبقاء الآخر تنفلت الحجارة تارة تكسر عيدان الذرة وأخرى تخيف الطيور والتي تعاود المجيء مرات لتأكل ما شاء لها بعدها تسبح في الفضاء عائدة لأوكارها. داهم المزرعة قطيع من الطيور وهببت إلى المرجمة أديرها عدة دورات وافلت ما بها ليتجه حجر نحو محيط المزرعة ليصيب رأس امرأة دخلت عبثا لتقطف أكواز الذرة، دفعت بالمرجمة وركضت نحو الصوت وجهها مغطى بالدم، أحدث الحجر جرحا غائرا في رأسها.
أطلق قدمي نحو منزلنا هاربا من تلك المرأة التي يسمونها المغزولة، تخيلت أظافرها تنشبها في حلقي انتقاما، لذا قطعت فكرة الذهاب إلى المزرعة في الأيَّام المتبقية من الموسم مكتفيا بذلك الحلم الذي يزاورني كل مساء وأصابع المغزولة تنشبها في حلقي، لا يفكني من صلابتها سوى صياح الديكة فجر كل يوم.
سوق الأحد لم يقتصر على البيع والشراء فقط بل اتسعت وظائفه ومهامه إلى جوانب إعلامية واجتماعية ونصائح وتذكير بأمور الدين ومكان لتنفيذ القصاص.
حدث كبير ترسخ في ذاكرة سكان القرية، ذلك الرجل المسن الذي شق السوق وهو يجرجر قدميه بصعوبة بالغة بسبب السلسلة الحديدية التي تحد من سيره، جنديان يوثقان يديه ويدفعانه إلى ساحة القصاص، لحيته البيضاء وهزال جسده وتمتماته التي ينثرها من أجل استعطاف الموجودين لم تجد، لا بُدَّ ان يخضع للقصاص نتيجة جريرته في قتل شخص آخر، كنت أراقبه من بعد، ومضى مجبرا على السير من بين الباعة، ليستقر في مساحة بور، عندها حدّد الطبيب مكانا في ظهره كعلامة تنفذ منها الرصاصة بعد أن قرأ الإعلان أحد الواقفين إلى جواره، دوى صوت عال من جراء رصاصة اخترقت جسده لينسفح دم أحمر قان، ثنى المسن جسده نحو الأمام، الموقف سبب لي قلقا، ولقصة مماثلة يتحدث بها الأهالي، فقد تم تنفيذ القصاص من رجل أسمر أراد أن يغدر بسيده فأخطأت الرصاصة لتهشم عدد من ضروسه وأسنانه، هرب وكان يظن بأنه قضى على صاحبه، العدالة قبضت عليه ليقف السياف قريبا منه ويشد بيده ملوحا بالسيف على رقبته، انزاحت قليلا عن المقتل ليتحرك جسده الضخم مما سبب فزعا للحاضرين ليضربه بعدها ضربة قوية فصلت رأسه عن جسده. مسافة زمنية طويلة بين الحدثين، ذاكرة الأهالي قادرة على شحذ خيوطها حين يساق أحد المحكوم عليهم بالقتل أمام ناظريهم في ساحة السوق.
كنت أتجول بين بسطات السوق، وهي بضائع متنوعة جلبت من أطراف بعيدة زهران غامد بيشة تهامة. بهارات، فواكه مواد غذائية زبيب لباب ماشية، يوجد سوقان أحدهما يرتفع قليلا يسمى الأعلى. يحيط بالسوقين دكاكين مبنية من الأحجار أو من الأسمنت يعج السوق بالمتسوقين خصوصا في أيَّام الأحد التي تسبق العيدين، دكاننا الصَّغير الذي تفتح أبوابه على السوق مباشرة يمتلئ بالمشترين، البضاعة يجلبها والدي من مكة المكرمة وجدة، ملبوسات أقمشة بهارات مواد غذائية وغيرها.
سوق الأحد يُعدُّ بوابتي الحقيقية للمعرفة حيث أشاهد الحركة التجارية البسيطة وكذلك بعض الرجال والذين يطلق عليهم المطاوعة وهم يتسنمون سقف أحد الدكاكين للحديث عن أمور الدين، وأهمية الصلاة، التذكير بالجنة والنار، الناس مشغولون في البيع والشراء.
تزداد فرحتي بيوم الأحد حيث يُسمح للطلاب بالتسوق في جنبات السوق وشراء وجباتهم من فاكهة الليمون الحالي والنبق الذي يبيعه القادمون من أطراف المنطقة.. كنت ادقق النظر في ملامح الناس وملابسهم يدهشني بعض الرجال الذين يمنطقون أجسادهم بحزام جلدي مثبت به جنابا تمتد إلى مسافة في الجانبين، مما تسبب إزعاجا للمارة، أبو مشعاب يزين هامته بأغصان صغيرة من شجيرة السذاب ويثبتها تحت عقاله، يمشي وهو يهمهم، نظراته شاردة، يثيره أي صوت عال، شاربه الكث المعقوف إلى الأعلى، يفتله بشيء من الزهو، يمشط السوق ذهابا وإيابا دونما حاجة، لم يكتف بالجنبية التي يلف بها وسطه، بل يشد بقبضته على مشعابه، دائما في حالة تحفز.
يقولون ان مشعابه الغليظ هوى به على رؤوس الكثيرين، لذا يتحاشاه المتبضعون، ويمنحونه شيئا من بضاعتهم ليذهب بها كغنيمة إلى منزله الذي يتموسق على تلة صغيرة، أبو مشعاب يظهر كعلامة مميزة في السوق، لا يستفيد من مصاطبه الزراعية، أغلى شيء عنده تلك العلبة الفضية المليئة بالدخان، يسحب بين الحين والآخر لفافة ورقية شفافة، ينتزعها من شريط ورقي، ويلفها بمهارة، يحشوها بالدخان، ويثبتها بالريق، ويشعلها بعود ثقاب، ليبدأ في الكيف بنفث الدخان من أنفه وفمه في لحظات الانشراح، لا أحد يجرؤ الحديث معه يُعدُّ ذلك تدخلا في مزاجه، ومن يكسر هذا البروتوكول الخاص به، فسوف يجرب من رأس المشعاب، يبتسم بعد أن يفرغ من السيجارة.
في ظهيرة يوم وقف في منتصف الطريق، ومنع عبور الأهالي، حاول البعض بكثير من الهدوء والحكمة ثنيه عن قراره، إلا أنه أصر على رأيه، ومع استمرار مجادلته تجمع رساب في جانبي فمه، وهي علامة واضحة لغضبه، أنبرا شابان مفتولا العضلات لإزاحته عن الطريق ولما شاهدهما قادمين، شدد قبضته على مشعابه مستعدا النزال، بالفعل انهال عليهما، وخرا طريحين على الأرض.
مكث مكانه متحديا الجميع، حتى جاءت عجوز، ومسكت بيده، وانسل وديعا إلى بيته، تعجب أهالي القرية من فعلة أبي مشعاب..
في صباح باكر، غسلت وجهي بماء بارد، سكبته من صفيحة معدنية بقيت عارية طوال المساء.. والدي يغسل أذني بدعاء يوجهه نحو السماء أصبحنا وأصبح الملك لله يا رزاق يا كريم، دلفت إلى المجلس سفرة صغيرة تحلق حولها أهلي، هيأتها أمي تمر، ودلة قهوة، وكسر من خبز الحنطة، ارتشفت فنجانين، وأكلت بضع تمرات، لم ينفك لسان أمي من دعاء لي ولأشقائي بالنجاح في المدرسة، والتوفيق في الحياة، كلماته مثل البلسم يعيد لي حيويتي، دعاني والدي لأذهب بصحبته إلى المزرعة، أثناء هبوطنا نحو الوادي لمحت القرية وقتها كان ينبعث من أسقفها دخان تراءت لي على شكل المصانع، في الطريق الذي سلكناه كانت النباتات تمد أغصانها في ممرات الطرق مما يضيق على الماشي، اصطبغت جدران المصاطب الزراعية بنباتات التصقت بها على شكل دوائر صغيرة كنت أتسلى بها حيث أضعها على فمي لأحدث صفيرا ممتعا.
أتتبع خطى والدي كخيط الإبرة حتى وصلنا إلى المزرعة سنابل القمح ملأى بالحبوب انتظارا لسد الأفواه الجائعة.. امتد حد المرجل في عيدان السنابل لتطرحها أرضا، عزيمة والدي والذين يساعدونه كافية لاجتثاث كامل المزرعة، خصص لي تجميع مصفوفات عيدان الحنطة على شكل حزم صغيرة لينعطف والدي بين الحين والآخر لجمعها ولفها في حزمة كبيرة بربطها بحبال مصنوعة من ذات العيدان، استمر العمل لتأتي والدتي بوجبة ملأنا بطوننا من لبابة الخبز التي نغمسها في جوف الطاستين الصَّغيرتين المملوءتين بالسمن واللبن،
الشمس كانت تتحرك كبندول الساعة نحو المغيب، استنهض والدي عزيمتنا لنحمل ما صرمناه لنتجه صوب القرية، لتكون نهايتها في جرين يستوعب كل ما أنتجته مزارعنا. بعد أيَّام من تجفيف سنابل القمح وقف ثوران أحمران استأجرهما أبي لدرس الحبوب، ربط وثاق من الحبال في رقبتي الثورين أوصلهما لقطعة من الحجر مليئة بالتجويفات استعدادا للهرس بدأت الخورمة تهرس ما يصادفها فيما راح والدي يجمع حزم الحنطة أمام الثورين لتهتك تلك القطعة الحجرية الذي أمامها، استمر الثوران في عمل شاق طوال الظهيرة، تأكد والدي من هرس العيدان بمد يده واخذ حفنة قليلة ورفعه إلى الأعلى لتتساقط حبوب حمراء فيما تطاير التبن، جاء دور التذرية ليتجمع الحبوب على شكل أكوام صغيرة، فيما يتطاير التبن في مواقع غير بعيدة لتصل في أحايين إلى تجويفات المنازل المجاورة، حملت ورفاقي التبن في قفاف إلى دهليز في أسفل منزلنا ليبقى علفا للحيوانات طوال العام رغم حشد كمية وفيرة من التبن، لم يكن طعاما شهيا لبقرتنا التي تعافه مستبدلته ببرسيم اخضر يُقدم لها في لفافات بعد استمالة عطفها، بقرتنا هي رأس مالنا تنتج اللبن والسمن والزبدة بعدها يمكن أن تكون غذاء يستمر طوال العام بعد قصل لحمها.
أشعر بسعادة حين تُسند لي مهمة خض الحليب الذي تجمعه في مخاضة فضية بشكل اسطواني، يترجرج الحليب مع استمرار لتتجمع الزبدة في الطبقة العليا لاحظى بقطعة منها أتلذذ بطعمها لازدردها وتنساب في حلقي.
بعد تفريغ الحليب وتصفية الزبدة، احمل شيئا منهما إلى جيراننا وأقاربنا، اللبن والسمن هما الغذاءان الشائعين لسكان القرية، أما الحبوب فيتم خزنها في أكياس تحفظ في مكان بعيد عن عبث الأطفال، لتطعم الأفواه، وتحوطا للجفاف الذي يضرب سراة الباحة في بعض السنوات.
تغيرت الحياة في القرية وكان الراعي أكثر حزنا لما حدث لها، إِذْ وقف كشجرة العرعر على تلة صغيرة ونظّم قصيدة شعبية وصدح بها بطرق الجبل، إلا أن الجبال والشعاب كانتا كما يزعم آذانها مغلقة.
جمعان الكرت - الباحة