أساليب الفنانين والتعبير عن أفكارهم.. نجاحها معقود باختيار أدوات التنفيذ
الحالات التي مرت عليها الفنون التشكيلية منذ أن تعرَّف الإنسان البدائي على الحفر أو الخدش على جدران الكهوف لتحقيق وظائف تتعلق بالإيحاء النفسي وشحن القدرات عند الصيادين أو المحاربين، مروراً بما أضفاه على تلك الرسوم من ألوان استقاها من أوراق الشجر أو بعض أنواع التربة أو صنعه لأدوات الحفر والخدش من الحجر الصلب، مروراً بما اكتشفه الإنسان (الفنان) من سبل توثيق المشاهد كالحفر على الحجر أو ألواح الخشب، ومن ثم طباعتها على الورق، وما طرأ بعد ذلك من تطور في أشكال التنفيذ وتنوع الأدوات سيراً موازياً مع تطور عقلية الإنسان وما تبع ذلك من تخصصات في هذا المجال في جانب تصنيع مستلزمات الفنون التشكيلية من الألوان حسب التخصص من زيتية أو مائية أو أقلام ملونة أو قماش رسم أو نوعيات ورق.
سبل تنفيذ تحقق الهدف من الفكرة
المطلع على ما يتم في الواقع التشكيلي محلياً ودولياً يكتشف أن جميع سبل وفرص تنفيذ الفكرة التي يبلورها الفنان ويشكلها ذهنياً عبر مرتجله الثقافي وما اختزله من خبرات أصبحت اليوم متاحة للتعامل مع كل وسيلة يمكن بها التعبير عن تلك الفكرة متجاوزين بها ما أشرنا إليه من سبل تقليدية لا تتجاوز القلم والفرشاة والأزميل إلى التشكيل بجميع السبل (المادية) الملموسة وصولاً إلى الضوء والإيحاءات الجسدية.
ومع هذه الطفرة والنقلة يمكن أن يطلق عليه تطوير وتجديد وحداثة إلا أن كلاً منها لا يلغي الآخر فلكل ذائقة فرصتها للاستمتاع، ولهذا وفي كل المعارض التي لم تعد حكراً على فن معين كما كان سابقاً كالفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي وغيرها بقدر ما جمعت في اسم لمّ شملها وجمع شتاتها، فإما أن يُقال (فن) بالمطلق أو يُقال (فنون بصرية) لتقريب مفهوم ما يعرض، وفي التسمية الثانية يمكن أن يتصور المتلقي أن المعرض يشتمل على كل ما ينتجه الفنانون من سبل التبير فيديو آرت ولوحات وأعمال مفاهيمية وخلافها.
هذا التنوع وما يحمله من القيم الفنية لكل طرف مهما تعددت سبل وخامات تنفيذه يصل بنا إلى الفكرة التي يعنيها الفنان ويبدأ المتلقي في اكتشاف قدرات الفنان على التعبير عنها من خلال الخامة، ففي الفترات السابقة التي لم يكن هناك سبل للتعبير غير الألوان المائية والزيتية والأزاميل والحجر والورق وقماش الرسم وما يقوم به الفنان من خلالها على إبراز فكرته أو تسجيل موقف أو واقع وبيئة نجد أنها سهلة الهضم الذهني عند المتلقي بعكس ما نراه اليوم من غموض وتمويه وإيحاءات تبطن ما لا تظهر أصبحت صعبة على من ليس لديه الثقافة الفنية.
هذا التنوع في الخامات يعني أن على الفنان اختيار الخامة وطريقة التنفيذ التي تمنح المشاهد ولو بعض المفاتيح لقراءة العمل والوصول إلى المعنى، وإلا فإن العمل برمته سيكون فاشلاً لا يثير الدهشة والإعجاب بقدر ما يبعث الاستغراب والاشمئزاز وصولاً إلى الجهل به، كما وقع فنان خليجي اشتهر بالمفاهيمية حينما أزيل عمله من أحد المعارض توقعاً أنها مخلفات عمال تنظيم المعرض.
هذا الموقف يعني أن الفارق بين ما كان من سبل التعبير التي كانت جزءاً من حياة الفنان ووجدانه حينما يلتقط ألوانه من أوراق ولحاء الشجر أو الحجارة الملونة بعد طحنها وإضافة دهون الحيوانات لها إلى زمن يبحث فيه الفنان عن ما يقذف به في الزبالة أو مخلفات البناء والمصانع.. ومع أنها سبل تعبير لا نختلف عليها وللفن حرية اختيارها وقد يكون فيها فلسفة أن يخرج الجمال بين ثنايا القبح، إلا أنها لا تجد الاهتمام عند المتلقي.
من الفرشاة والإزميل إلى الرسم بالضوء
لم يتوقف البحث والتجريب في سبل التعبير البصري عند ما سبق ذكره من خامات التنفيذ ومصادر تصنيعها أو كيفية استخدامها إلى مراحل أكثر تطوراً ومنح الفنان حرية التنفيذ بخامات تنتهي بنهاية العرض لا تحتاج إلى متحف أو مكان يضمن لها الاستدامة، وإنما تصبح أعمالاً سريعة التنفيذ وسريعة الذوبان في المكان، وغالباً في ذاكرة المتلقي غير المتخصص، هذا التحول وصل بالفنان إلى استخدام ما يمكن اعتباره تجاوزاً للواقع ومثيراً للدهشة وجاذباً للنظر، لكن في حدود الأصل الذي خُصص له وهو الدعاية والإعلام كما نرى في برامج الفن الرقمي التي تعتمد على الصورة المستقاة (المسروقة) من مجلة أو خلافها، أو مما يقوم بتصويره من يتعامل بهذا الفن بالنيون أو استخدام الدائرة الكهربائية التي برز استخدامها في اللوحات الإعلانية ليحيلها الفنان إلى خطوط تشكّل عملاً فنياً، وصولاً إلى الرسم أو التشكيل بالليزر كما استخدمه الكثير من الفنانين، ومنهم الفنان نجا مهداوي في عرض إبداعه بالحرف العربي بعرضه على جبل في هوليود أثار إعجاب المتلقي.
أخيراً نعود إلى ما يمكن المقارنة به بين مراحل وأجيال الفن ومستوى وقيمة التأثير والأهمية التي تلحق بكل من تلك الإبداعات.. بين عصور مضت كان أبرزها فنون عصر النهضة وما تبع ذلك من نشأة التأثيرية والانطباعية والرمزية والتجريدية التي تزخر بها المتاحف وتحقق أرباحاً عند تسويقها أو إقامة مزادات لها، كما نستشهد بما حظيت به لوحات فنانين مصريين من مقتنيات المهندس محمد الفارشي التي تجاوز سعر الواحدة مليوني ريال في أحد المزادات إلى عالم المفاهيمية التي تمر مر سحاب صيف لا هي أمطرت ولا هي أظلت عن لهيب الشمس.
monif.art@msn.com