الثقافية - محمد هليل الرويلي:
ماذا قال هذا الرجل ليقنعنا بأن تاريخنا أثيل ومواضينا راسفة في بحبوحة الإشراق وماذا فعل كي يجيل العثار عن ترثنا المعسجد،، على خطى هذا العيد يحيا العرب يحيا الوطن وتحيا الحضارات اقتفى آثار قوافل العابرين الماخرة خضم الوفاض المترامية نقب في منازلهم ومعابدهم وسككهم ومسكوكاتهم اشتم أرج قصائدهم من أفواههم المدبوغة بلغة النمارة فتهاطل غيثهم المسجام بإيقاع أوكستري لحنه ذواكر قدسية سلائلها طاعنة التلادة.
هذا العيد سلسلة تبرية ،، هرم غائر الرسخان، رمز كوني وطني حضاري. روحه ميثاء وشائجه حالمة دمه لونه منتقع العربوية صوته ينداح من ذاكرة يخال لنا عرفانها أو ربما سمعنا بها وهو ينادي جده الحكيم لبيد بن ربيعة والملك الضليل أمرؤ القيس والصعلوك الشنفرى ربما درسناها أو تلاها علينا أحدهم ذات ذاكرة عربية مختضلة بالعز والاشمخرار دعونا نقتفي أثر هذا العيد يحيى عله وحده من يوصلنا ويبوصلنا بدروب العرب لنصطف معًا ونمشي زرافات وجحافل حيثما الحضارات والتأريخ الموغل بمفازات وقفار تشبه أرضنا وعبق كرائحة أنفاسنا ورسوما خطتها أقدام كانت تسير «على خطى العرب».
المجلة الثقافية اقتفت أثر الدكتور عيد اليحيى فكان هذا الحوار الذي تحدث فيه بكل سعادة وطنية عن مشروعه الوطني الكبير «على خطى العرب».
* نلحظ أن ثمة قصورًا في تعاطي المثقف مع متغيرات الواقع الاجتماعي في المنطقة وضرورة تقنين الخوض في المعترك الايديلوجي من أولئك النخب الذين تسلحوا بالثقافة والمعرفة لانخراط كل من ادعى الثقافة وانتهج التنظير العقيم فشكل خطرًا على النسيج الاجتماعي وهو ما يطل بوجهه القبيح من خلال ما نشهده من تلاسن ونفور بين مكونات الوطن الواحد لا لشيء الا لأنهم ضحية لسطحية التفكير وضحالة الفكر ما سوغ لتنامي الفكر الاقصائي بين العامة هل هذا هو حال العرب أم أننا عجزنا عن فهم قيمنا التاريخية وحضاراتنا التاريخية فكيف نفهم المتغيرات المتسارعة الاجتماعية والرقمية المحيطة بنا؟
المشكلة التي عانى منها ومازال يعاني منها العالم العربي بعد عصر النهضة العربية والتحرر من الاستعمار إلى وقتنا الحالي - واقولها وأتحمل مسؤلية كلامي- إن كل مادون من كُتب تتعلق بالأدب أو الشعر العربي أو الفن في الحراك الثقافي والأهم من ذلك نقد بنية العقل العربي التي اعتمدت على التنظير، فمحاولة هؤلاء الرواد مثل محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد الجابري، ومالك بن نبي، كل ما كتبه هؤلاء تنظير مبني على قيم وأسس ونظريات غربية لها ظروفها «الأنثروبولوجية والجيوسياسية» الخاصة بتلك الشعوب والبلدان.
والحركات الاصلاحية وإعادة التنشئة الثقافية في أوروبا متمايزة ومختلفة حسب المكان الجغرافي لكل دولة ففي ألمانيا يختلف عن ماهو موجود في فرنسا لأن كل له ثقافته مع أنهم يشتركون في الدين وهناك تقارب عرقي بين. فتجد كل مجتمع أصبح يمتلك حراكا ثقافيا اجتماعيا فنيا خاصا فكل أمة ثقافتها وطبيعتها الاجتماعية المستقلة الخاصة التي تقوم على لغتها الأساسية وعاداتها وتقاليدها، مفكرينا ومثقفينا وكتابنا حاولوا تقديم التجربة الغربية باوادتها الخاصة بها التي كانت نتاج عمل ميداني وتطبيقي لما هو موجود عندهم من تراث وثقافة ويمارس في التربية والتعليم وجميع الفنون وكان الواجب أن يدرسوا تاريخنا الإنساني والثقافي ميدانيا ويمارسوه تطبيقيا بأدواتنا الخاصة بنا.
الأكاديمي أو الباحث العربي ماذا أفادنا فيه عندما تخصص في الثقافات والنظريات الأوربية هل يريد أن يكون أكثر من الألمان أو الفرنسيين في قراءة تاريخهم وتراثهم وأدبهم أو اتجاهاتهم الفكرية وطبائعهم المبنية على التنوع «الجيوسياسي» عندهم، ثم يجلبها لنا معلبة فتصبح الأخطاء عندنا متراكمة، نحن في العالم العربي لم نكرس جهدنا ولم نمعن النظر في دراسة تاريخنا فنحن لم ندرس جيولوجية أوطاننا أو أيركلوجيتنا أو معرفة الغنى «الجيوسياسي» التي تتميز بها كل دولة من دول العالم العربي. حضارة الكنديين، السبئيين، والحمريين والتتار والأنباط من التجارة ويغزون الجزيرة العربية قبائل اليمن «ملوك اليمن» ويؤمنون طرق القوافل التي وسط الجزيرة العربية، وأبرهة لم يأتي لمكة إلا لمعرفته التامة بالطرق التي تسلكها القوافل لقد كان هناك رفاه اقتصادي عظيم حضارة الدانين ومملكة أدوماتو في دومة الجندل حضارة العلا ومملكة تيماء حضارات ممتدة لايمكن تقطيعها ناهيك عن التلاقح العالمي في الجزيرة العربية عن طريق تجارة الحرير البحري الآتي من الهند وجلب البهارات في دارين ومن جنوب الجزيرة من خلال بحر العرب.
فالصينيون يبيعون الحرير على العرب ويأخذون الصمغ واللبان والنحاس والذهب والؤلؤ والمرجان والهنديون أيضًا حضارات ممتدة ازدهرت، جهلنا بتاريخنا الذي يحوي رفاه اجتماعي وثقافي واقتصادي أدى إلى عدم وجود قاعدة وطنية ينطلقون منها هؤلاء الناس ولم يتبقى لديهم غير «التلاسن التنظيري السامج» ونظريات غربية وتطبيقها على منهجنا دون فحص تاريخنا مع النظريات الخاصة بهم مع أنهم يحملون التنوع في قارتهم العجوز والخصوصية لكل منهم. المنشغلون بأسباب تخلف العرب من الباحثين العرب والأدباء والكتاب لم ينزلوا للميدان ولم يعرفوا تاريخهم الحقيقي مثل ما فعل البلدانيون أمثال الهمداني والحموي بن جبير الاندلسي بينما الرحالين في العصر الحديث أمثال سعد بن بليهد وسعد بن جنيدل والرداعي وبن خميس والعبودي وحمد الجاسر وعبدالله الشايع وعبدالله الخيال ومحمد الراشد وسعد العنيزان هؤلاء أثروا ودرسوا الموضوع ميدانيًا وتتبعوا أماكن كتبت في الشعر العربي فأثروا في المنطقة واستمتعنا بما كتبوه.
* الرجل الذي يأخذ رقم المرأة في كل شيء ليس ساذج كما يقول الأغلبية هو يؤمن فقط أنّ الفضاء لا يكتمل إلا بوجود أنثى من المفروض أن يكون هذا عين الصواب والحكمة لكن هناك من يرى أيضًا ويعتقد أنه كل ذلك مجرد تنظير فقط بينما الواقع عند العرب يختلف من خلال ملامستك لتفاصيل الحياة العربية القديمة في أبحاثك أين وجدت المرأة بينهم وماذا قدمت لها من خلال هذا العمل المدهش؟
موضوع المرأة في حضارات جزيرة العرب منذ آلاف السنين موضوع مهم فكانت الشريكة للرجل في كل شيء، الرسومات الصخرية التي توجد فيها الأنثى وهي تشارك في الحياة الاجتماعية ولا أدل على ذلك أن دومة الجندل قد حكمتها أربع ملكات كل ذلك كان قبل الميلاد بأكثر من ثمانمئة سنة حتى امتداد الشام هناك «الملكة زنوبيا» وقصة «بلقيس» ملكة سبأ مع النبي سليمان عليه السلام في عهد النبي سليمان وكان لها قوم يتبعونها وكان عندهم تقدم اقتصادي وثقافي هائل فلم تكن المرأة هامشية فمشاركاتها في الميادين والاتجاهات الحضارية والمجتمعية قوية وقد كانت قبل الإسلام في العصر الجاهلي لها دور عظيم وها هي السيدة خديجة في العصر الإسلامي تشتغل بالتجارة وتمتلك أضخم القوافل التجارية وقصتها مع رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي أدار تجارتها لاحقًا، لقد كانت النساء يبعن في منازلهن ويعملن بشتى صنوف التجارة وها هن بنات «مكة الحرات» من الأشراف يرسلن أولادهن ليرضعوا خارج مكة وهذا دليل على مكانة المرآة العربية في المجتمع ودليل على الرفاه الاقتصادي حيث كانت بيوتهن تفرش بالنمارق والمفارش الوثيرة في البيوت فكانت المرأة تفرض على زوجها أن ترسل الطفل للبادية والدليل على ذلك قول هند بنت ربيعة في معركة أحد قالت «إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق وإن تدبروا نفارق فراقًا غير وامق». فهن يعتنينا بجمالهن ويطعن في ذلك. وفي العهد الإسلامي أم عمارة تقاتل مع الرجال في معركة أحد وغيرها والرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ النساء في الغزوات. ومن الأمثلة على جهلنا بتاريخنا الإنساني أنهم علمونا أنهم يرسلون أولادهم ليتعلمون اللغة وهذا مخالف للحقيقة فقريش هي أفصح العرب والقرآن نزل بلغة قريش بلسان عربي مبين والأمثلة على ذلك كثيرة. كما أن العهد الذي يلي صدر الإسلام قد حدثت فيه أحداث شهيرة شاركت فيها المرأة كما في مشروع السيدة زبيدة والسيدة الخيزران التي لعبتا دورا سياسيا فعلا في العصر العباسي الأول. وفي عصور لاحقة الفارسة غالية البقمية قامت بأدوار حربية بطولية ضد الترك ومزنة المطرودية في ردها للعدو وإرجاعها الإبل المسروقة من بلدة العوشزية وكذلك الجازي التمياط وموضي البسام ونورة العرفج وموضي بنت وهطان الكثيري كذلك نورة بنت عبدالرحمن التي كانت مستشارة للمؤسس الملك عبدالعزيز والتي أصبحت على لسان الملك عند الكروب واشتداد الأزمات في نخوة شهيرة.
غير أننا تأثرنا ببعض العادات والتقاليد التي جاءتنا من الشام ومصر التي لوثتها المدنية المتوارثة من حضارات غنية سابقة «الاوربنتي» فمثلا كانت المرأة الكاهنة تبتعد عن الرجال وتنفصل عنهم وفي التراث المسيحي الأوربي نجد أن المرأة الشيطان ورجس حسب الرهبانية التي لم يكتبها الله عليهم. والدليل على ذلك الشعر العذري في الشعر العربي في جزيرة العرب، كان صوت الفطرة عاليًا جدًا كان العاشق يرى عشيقته دون حدوث تقابل جسدي كما هو موجود في الحضارات الأوربية الشرقية والغربية، والدليل أن توبة بن الحميّر عشيق ليلى الأخلية في عصر الدولة الأموية قال:
وكنت إذاما زرت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
بعدما رآها كاشفة وجهها فعرف أنها تحذره. كذلك قصص العذريين في الشعر العذري الكثير مما يدل على سلامة الفطرة إلا أنه في عصرنا الحالي بعد تأثير الحزبية السياسية التي جاءت من الخارج التي جلبت معها أفكارًا ليست من فطرة العرب التي نشؤوا عليها بتأثير من طبيعة أرضهم.
* بماذا ترد على من اتهموا البرنامج ببعده عن المصداقية وما هي مراجعك ووثائقك البحثية والعلمية في تقديم مواد هذا البرنامج ومن هم أهم الأسماء الذين استندت عليهم لتقديم كل هذه الرؤى والأطروحات التاريخية؟
على من اتهمنا بالبعد عن المصداقية بالنزول للميدان أن يدلنا على الحقيقة من خلال نقد علمي موثق بعيدا عن الكلام والتنظير الذي لا أرضية له، أما مراجعي ووثائقي فقد اعتمدت أولًا على البلدانيين القدامى المحدثين في تلك النصوص والمعاصرين ثم أرجح ما أراه بعد تطبيق المنهج «الأنثرببولوجي» هم لم يطبقوا هذا المنهج. كما أرى بأن تاريخ الجزيرة العربية قطعة واحدة متصلة غير مفصولة.
نحن مشكلتنا بأن تاريخنا العربي عمومًا وفي الجزيرة خصوصًا تعرض للفصل والبعثرة فكل واحدة تدرس على حده فالنتيجة إذن غير دقيقة فلابد من إعادة ترتيبها لنتعرف على الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الجزيرة العربية منذ آلاف السنين وطرق التجارة والعلاقات الخارجية وموارد المياه كيف كانوا يصطادون ويرعون ويركبون الخيل وكيف كانوا يعشقون من دون المعرفة الدقيقة، النصوص وحدها لا تفي بالغرض حتى أننا لم ندرسها ناهيك عن استجلاب نظريات من الغرب هي أصلًا مختلفة داخل الغرب كل على حده كما ذكرت فهذا فشل ذريع وسقطة عظيمة لها أسبابها. الأدباء والكتاب الذين انشغلوا بموضوع كيف تخلف العرب وتقدم غيرهم أصلًا لم ينزلوا للميدان ولم يعرفوا تاريخهم الحقيقي غير ما قرأوه من كلام الكتب المنظرة وبنوا عليها آرائهم.
* دائما ما تأتينا انتقادات خارجية أن الجزيرة العربية لا تحوي تراثًا وأنها صحراء مجردة من التاريخ ودائما ما تعرض المسلسلات وكتب الموروث العربي القصص العربية دون ذكر موقعها الأصلي ما يعطينا انطباعًا أنها في أي مكان إلا في الجزيرة العربية هل ترى أن برنامج خطى العرب قد أظهر حقيقة اشتمال المملكة العربية السعودية على أكبر وأعمق إرث عربي وأنه أنصفنا أمام العالم بأننا نقف على أقدم حضارة عرفتها البشرية وما دليلك على هذا؟
الانتقادات الخارجية لم تأت اعتباطًا هناك جهات تعمل على هذا الموضوع منذ وقت طويل خاصة الشعوبيين. قديمًا أيام الدولة العباسية كانوا يعادون العربي وكل ماهو عربي ودخل الفرس على الخط حتى بعدما اعتنقوا الإسلام وكان لهم شعر كثير مراده بأنكم يا أهل الجزيرة العربية ليس عندكم أدنى ذرة من شعور. ويطلبون من قريش خلال الفترة العباسية بالعراق بالرجوع للحجاز لأكل الضباب ورعي الغنم ثم جاء من بعدهم المستشرقون فبعضهم خدموا التاريخ والإرث وترجموا الكتابات العربية القديمة لكن لهم أهداف استعمارية واستخباراتية وتبشيرية لم يذكروا كل شيء على حقيقته وإلى الآن الفرق الأجنبية التي تنقب عن أشياء محددة. حقيقة نحن أهملنا تاريخنا وتراثنا وتركناه للآخرين لم ينصفونا كما أننا كسالى لم ننصف أنفسنا. نحن ميتون لم نفعل شيئاً لتاريخنا.
ثمة أشياء مقصودة كتفريغ الجزيرة العربية من تراثها وتجريفه وبعثرته والتقليل من أهميتها، العرب قبل الإسلام كانوا يتعرضون للعدا والهجمات من الجهات الأجنبية خاصة من الفرس حروب يوم «ذي قار» ويوم «خزاز» وحملة «أبرهة الأشرم» على «حلبان» وسط الجزيرة العربية وبعض ملوك الحميريين هجموا على جنوب الجزيرة العربية واشتبكوا مع القبائل الآشورية، منذ القدم كان الصراع طبيعيًا للعوامل التي ذكرنا حتى جاء الإسلام ودخله أناس عندهم قوميات وعندهم تراث فمن الطبيعي أنهم يدافعون عن تراثهم وتاريخهم بما فيهم المسلمون الجدد إلا أنهم يقللون من تاريخ العرب عمدًا. الإسلام ليس هوية بل هو دين لكل الناس فالرسول أرسل للناس كافة بجميع أجناسهم وجميع دولهم وخطابات الرسول قد قال فيها ياعظيم القبط ويافلان ملك الفرس. حين كان يدعوهم للإسلام المشكلة عندنا تكمن في تعويم هويتنا، كما أن الإسلام يدعو إلى الافتخار بالهوية فالرسول قد افتخر بهويته حين قال: «أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب» . لقد نزل القرآن بلسان عربي مبين وماحصل من تعويم لهويتنا هو عمل مقصود بذاته وها نحن نلتهم حصاده بكل أسى ومرارة.
* هل هناك تخطيط لإشراك الشباب في برامجك القادمة على ضوء ما طرحه عليكم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله رحمه الله والذي كان في اتصاله دلالات عميقة على رؤية وطنية فجاء التوجيه والتشجيع والشكر من ملك يضع الموازين بالعدل؟
سأشرك الشباب معي بناءً على نصيحة الملك الراحل عبدالله - تغمده الله بواسع رحمته- والذي سرني تحمسه للبرنامج كم أتمنى بأن التشجيع يستمر لأنني أقوم بعمل إعلامي نوعي ليس مؤقت وفقاعي وإنما عمل نوعي يبقى للأجيال.
* كل موقع في طرحك على خطى العرب يحتاج لكم هائل من المراجع والدراسات التاريخية والانثربولوجية والتحقق من معلومتها ما يحتاج لوقت طويل في دراستها كيف واجهت سلاح الوقت تجاه هذه البحوث ومن كان معك في ترجيح بعض الوقائع والأقاويل على بعض؟
منذ نعومة أظفاري حين كنت طفلًا وأنا أترحل في الجزيرة العربية مع والدي صيفًا شتاءً وخلال رحلات الصيد ساعدني بذلك معرفة والدي بالطرق البرية حيث كان أحد سائقي الشاحنات القدامى، ثم قرأت السيرة النبوية وكل ماكتب في الأدب العربي والشعر واعتمدت على ما دون في كتب البلدانيات وبعد تطبيقها ميدانيًا وترجيح ما أرى أنه الصواب كذلك قرأت حروب الردة والهجرات القديمة فتولد داخلي عشق بمعرفة طبغرافية أرضنا وجيوسياسيتها من غنى عظيم في التضاريس والأماكن وأنثربولجية الإنسان العربي فالجهات الحزبية التي وضعت مناهجنا لها اهداف معروفة متأثرة بالمنهج الاستشراقي الاستعماري التي رسمت توجهاتنا لتغييبنا عن مكنون أرضنا العربية ولقد عرفت ذلك بعدما درست في الغرب وعرفت كيف ينمون ويعلمون أولادهم تاريخهم وتراثهم الثقافي.
* رغم وجود الدلائل القوية في أسماء المواقع التي ما زالت تحمل نفس الأسماء وذكرها شعراء العصور الغابرة بالشعر ما يدل على وجود الحضارات في جزيرتنا العربية بالإضافة إلى وجود بعض الكلمات القديمة في الموروث الشعري العربي والتي ما زالت مستعملة في لهجتنا إلا أن الكثير يتجاهل هذه الأدلة ويقف على تحليلات واستناجات ليست من الواقع بشيء على وجودها في أماكن أخرى من العالم والتي تستغلها الدول من باب الدعاية وجذب السياح. بماذا تحلل هذا الموقف الضد من بعض مثقفينا؟ وهل ترى أن لفت النظر لعمق التاريخ الانثربولوجي في أرض الجزيرة سيعيد للجيل التفكير بأن الجزيرة العربية هي مهد الحضارات التي صادرها العالم لنفسه وصمتنا نحن عنه؟
هذا صحيح نوعًا ما، لكن جميع المواقع الدينية المقدسة المرتبطة بأماكن الأنبياء وآثار رسالاتهم وسيرهم ومراقدهم ليس عليها دليل قاطع يزعمونها كذلك مراقد الشعراء من فحول الشعر العربي الجاهلي وعصر صدر الإسلام الأول كما أن الأماكن التي وردت في الشعر العربي لم يدعها أحد ما عدا قبر الشاعر العربي امرئ القيس «الملك الضليل» وهذا شيء ثابت والذي وافاه الأجل بعد رجوعه من قيصر في اسطنبول سنة «540م» الواقع على قمة هضبة هدريليك (تيمور لنك) في أنقره في تركيا والجميل في الأمر أن الأتراك اليوم سيعيدون تأهيل المكان وبناء ضريح تاريخي لقبر الشاعر. فالجزيرة العربية وأرض الرافدين والشام ومصر أرض حضارات أماكن حدثت فيها وقائع وأحداث يزعم البعض أن بعض الوقائع والأحداث والأمكنة حدثت في أمكنة حددوها لكن تلك الأحداث القديمة ليس عليها دليل قاطع إنما كل مافي الأمر أن هناك أراء ترجح وأراء تنفي دون دليل يثبت صدق تلك المقولات.
* في مصر هناك أركولوجيا (أهرامات، وآثار فرعونية، وحفريات) وهو ما جعل المصريين يتعلقون بمصر وفي أمريكا أيضًا استشعروا هذا النقص فعمدوا إلى أفلام الكاوبوي وحمل السلاح والقبعة والخيل والأطعمة الأمريكية ماذا يريدنا اليحيى أن نتعلق به؟
في الركن الأول للأركان الثلاثة التي حددتها بـ(إحياء الوطنية وتعزيز الهوية لكل أمة) أشرت إلى «تعريف المواطن بإركيولوجيا وطنه» هذه النظرية موجودة في صفحتي بـ»ويكيبيديا» والدولة التي تعمل بها ثقافيًا وتربويًا وفنيًا داخل المجتمع يتحقق لها مفهوم السعادة الوطنية لذلك نلحظ أن المصريين يتميزون بين شعوب العالم العربي بولاء كبير لمصر هذا الولاء ساعد على تنجية مصر من الانطحان بحروب أهلية بعد موجة الاضطرابات التي حدثت بعد ما يسمى بالربيع العربي فركن واحد فقط قد ساهم في إخراجهم من المأزق. لذلك المواطن المصري يشعر بانتماء لأرضه لأنه سليل حضارة لأنه يرى هذه الحضارة العريقة والأبنية التاريخية والأثرية العتيقة من العصور الفرعونية التي تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة فتجده يحب مصر ويشعر بانتماء بعدما عززه العيش وسط هذه المشاهد التاريخية التي أصبحت أيضا مصدر جذب لملايين السياح والزوار كل سنة لأرض الحضارات الفرعونية فكيف بالمواطن نفسه الذي يشعر بانتماء وحب لتراب مصر. الأمريكان قبل أن يكون لهم «انثربلوجيا» لأنها قارة جديدة تم اكتشافها مؤخرًا خلقولها خلقًا من العدم عبر إنجابهم لما يسمى بمغامرات الغرب الأمريكي «الكاوبويي ورعاة البقر والخيل وأنشأوا لهم ثقافة وشعرًا وموسيقى خاصة وطريقة لبس وأكل معينة وطريقة غزو معينة وكلامًا وأدبيات وقوانين خلقوها مؤخرًا وبالغوا في تعميقها بآلاف الأفلام الهوليود ونشروها بين شعوبهم حتى صدقوها وصدقناها معهم وكل ذلك من أجل إحياء الاعتزاز الأمريكي فتجد الرئيس بلبس الكاوبوي ويظهر أمام شاشات التلفاز وهو يرتدي هذا التراث وبعد اغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي بالستينات طالب الكونجرس سحب الأسلحة الشخصية من المواطنين غير أنه تم رفض هذا المقترح لأنه يمس تراثاً من تراثهم الذي يظهر به الشخص وهو يقتني مسدسين غير البندقية الموضوعة بجوار السرج والمسدس الرابع موضوعة في الساق يستخدمه عند الحاجة الحربية أيضًا. إذًا ثقافة الكاوبوي جزء من انثربلوجيتهم نحن ليس عندنا انثربلوجية للجزيرة العربية فقط إنما العالم كله خرج من حضارتنا وسليل حضارتنا وتراثنا هو الامتداد الأول لكل الشعوب.
* نمت في أماكن فيها سباع وسمعت أصوات الذئاب وشاهدت أثرها ليالٍ لم تر فيها بشرًا صعدت أعالي الجبال وفتشت في المغارات متأملًا في قصص الماضي لأن الله أمر بالسير في الأرض فالدين ليس لديه موقف عدائي من الآثار بعد كل ذلك ماذا تشكل بداخلك وهل عتبت على هيئة السياحة والتراث الوطني والناس على كل ذلك العبث الذي طال المواقع والآثار وماهي نصيحتك لنا وللأجيال القادمة؟
لو استبدلت هيئة السياحة والتراث الوطني لوحاتها التحذيرية المنتشره في السعودية عند الأماكن الاثرية والتاريخية بلوحات تعريفية فيه شرح وتوضيح لأهمية هذه المكان وماهي هذه الرسومات والنقوش ونمت لدى المواطن أهمية المحافظة عليها لما حدث هذا العبث والتخريب والتهديم والتنبيش التحذير أثارهم للبحث عن الكنوز المواطن لم يدرس في المدرسة شروحات حول الكتابات الثمودية والأشورية لم يعلمنا أحد أن بلادنا تحوي على تاريخ عظيم ولقد كتبت لهيئة السياحة هذا المقترح.
* قد لا نقارن أنفسنا بالأوروبيين والغرب لضعف الاهتمام بالآثار لكن لم لم نكن مثل لبنان مثلا أو مصر أو الدول المحيطة بنا التي اعتنت بالآثار عناية خاصة واعتبرتها من الكنوز القومية. لعقود طويلة لم نستطع أن نتخطى التحفظات التي طرأت على المستويات القبلية أو الفقهية ولم نتجاوزها ونستوعب أن الزمن تغير والعصر الحالي ليس كالعصور الغابرة متى نستوعب أننا في زمن المعلومة والفائدة والوثيقة والأرشفة؟
شخصيًا أرى أن هناك تغيرًا في الرؤية مؤخرًا، من ناحية فقهية الإسلام لم يحرم هذا بل أمر بالسير والتأمل والتفحص، البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، في القرآن وردت آيات تدل على ذلك وتشجع عليه {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ}.
ما معنى الآثار وما معنى اللغة وتاريخ الحضارات من يقول إن البحث فيها يتنافى مع الدين هذا إنسان عقيم لديه فهم خاطئ للدين فعمق جذور الثقافة العامة والتلقين وما ينشئ عليه الإنسان سيظل مسيطرا على عقله حتى وإن تدرج في المعرفة. فالأصل لدى الإنسان الجهل ولا يمكن تغييره إلا بتغيير نمط الثقافة. الإنسان يذهب ويتعلم لكنه إذا رجع للبيئة الحاضنة التي فيها نمط ثقافي «يتقولب» على هذا النمط الثقافي ويُغمر ولا يكاد علمه يبين!
الموقف من الآثار كان مبنياً على رؤية قاصرة غير مبنية على دليل شرعي ولا نقلي لكنه بدأ هذا يتغير أما من الناحية القبلية صحيح في فترة من الفترات كان كل قبلية تحاول أن تمنع أن لا أحد يأتي إلى هذا المكان لكن الدولة بعد سيطرتها وبسط النظام والتشريعات على الأماكن العامة التي تملكها نظمت هذا الأمر.