وفي رواية «الأرجوحة» لبدرية البشر يبدأ الرهانُ على الجسد مبكّراً مع سلوى، فقد قامت في مرحلة شبابها بأكثر من عملية تجميلية، وأفضى بها التباهي المعلن بالجسد إلى ما كانت تحلم به جميع الفتيات في محيطها، إلى الزواج من الرجل المليونير سلطان العاجي (إحدى شخصيات الرواية). وقد كان الجسدُ فاتحة هذه العلاقة، وذلك حين وصفت الخطابة فطيّم لعمّها سلطان جسدَ سلوى :
«الحظّ وحده جعل فطيّم السمراء تراهن على جمال سلوى عند سلطان العاجي، فخبرة فطيّم في ترشيح النساء للشيوخ أكسبتها خبرة بما يعجب الرجال... كان يسعد بفصول مسرحية عرض فطيم ورفيقاتها للنساء أمامه أكثر مما يسعده الحصول عليهنّ؛ ففطيّم لها طريقة درامية طريفة، فهي تقلد مشيتها وتتمايل ... أو تدفع بصدرها وهي تسنده بكفليها لتقول إنه صدر ناهد وكبير، وكلما رأينه يضحك زدن في الوصف حتى يشعرن بأن ساعة صفوه قد اقتربت، فتدنو منه فطيّم، وتضغط يدها بكفه قائلة: هاه وش قلت يا طويل العمر؟ نحاكي أهلها؟
فيرد عليها :ما أقوى أقول لك بعد هالوصف شيء يا فطيّم...» (ص61) .
ولقناعة سلوى بأنّ سلطان العاجي زوجٌ من طراز فريد، ومطمح لكلّ الفتيات، فقد قدمت الجسد كعامل جذب مستمر لهذه العلاقة، نلمس هذا في استعدادها للقائه من حين إلى حين:
«وقفتْ أمام المرآة تضع زينتها الكثيفة وألوان مكياجها البهيج، الذي تعرف أن سلطان لا يحبه، لكنها تعرف أيضاً أنّها من دون هذه اللمسات تبدو ساذجة، مثل ربة بيت لا تجيد غير النظر إلى التلفزيون. فرشت الكحل الأسود على نهايات العينين، ومرّرت بالفرشاة لونَ الزهر على جانبي وجهها، وعقصتْ رموشَها بعقّاصة الرموش ...» (ص79)
لكنّ رهانها على الجسد لم يستطع الصمود أمام عوامل أقوى، وأهمها العامل الاجتماعي المتمثل في عدم تكافئهما في النسب، وفي خوف سلطان من زوجته ووالده، وفي رفض إخوة سلوى استمرار الزواج بينهما بالسرّ وعدم وفاء سلطان بشرط إعلانه، فانتهت العلاقة بينهما بالطلاق، وخلّفت هذه التجربة الكثير من الألم في نفس سلوى؛ فانتقل تباهيها بالجسد ورهانها عليه من محاولة تأصيل العلاقة بسلطان، وتأمين استمراريتها، إلى محاولة التخفّف من الوجع، والتخلّص من القيود التي فرضها المجتمع عليه؛ لذلك استغلت - كصديقتيها عنّاب ومريم - وجودَها في جنيف، فدخلت الملاهي، وخالطت الشباب، ورقصت على المسرح حتى اشتعل جسدها، ثمّ سألت عن الحشيش .
في هذا المستوى من التمثيل (الذي رأينا بعض ملامحه في ثلاث روايات نسائية) تبدو الكتابة الروائية عن الجسد:
1- تعبيراً واعياً في بعض الروايات عن أزمة الجسد الأنثوي، وكيف أنّ العلاقة بين المرأة وجسدها – كما تعبّر منيرة المبدل – «علاقة التباس وخوف وقلق؛ فكأنّ هذا الجسد ملكٌ للعادات والقيم وليس ملكاً للمرأة»؛ لذلك ينتهي الاحتفاء بالجسد والتباهي به إلى تعميق صور استلاب الأنثى وتبعيتها للرجل كما رأينا في شخصية سلوى، وهذا ما عبرت عنه سلوى نفسها في مشهد حواري جمعها بصديقتيها مريم وعنّاب :
«قالت سلوى وهنّ يتداولن أوجاعهنّ: شوفيني قدامك، سلطان راح وخلاني ولا عطاني قرش واحد. طول عمري أتلقى الخوازيق... لم أتفادَ ما حدث لأمي، لم أُجِد الحفاظ على أرجوحتي. تغريني الأرجوحة فأركبها وأنسى نفسي، لكنني في كل مرة آكلها وأقع على رأسي» (ص110) .
2- وتأثراً في بعضها الآخر بوجهة النظر الذكورية؛ لذلك يبدو الجسد فيها أداة وحيدة للإغراء؛ إذ تقوم الرواية بكشفه وبثّ تفاصيله بطريقة من شأنها حجب الأبعاد الأخرى التي يمكن أن تقدم المرأة بمنطق مختلف، أكثر قدرة على كشف جانبها الإنساني وإمكانيات استقلالها فكرياً واجتماعياً، فكأنّ كتابة المرأة من هذا المنظور - كما يعبّر سعيد بنكراد - أداة لتطبيع الثقافي وتسويقه، فهي لا تضع حداً للصور الذكورية بل تؤكد غلبتها، وهذا ما تعبر عنه مكوّنات التمثيل الغالبة على هذا المستوى من التمثيل في كثير من الروايات؛ إذ تستغلّ المرأة في علاقتها بالرجل طاقة الجسد (كالإغراء من بعيد، والإغراء من قريب، والقبلة، والملاطفة، والعلاقة الجنسية الكاملة)، والإمكانات التي يتيحها التدخّل في بنائه (كالتجمّل، والعمليات التجميلية، واللباس المغري)، وتنطلق في ذلك كله من مفهوم الرجل للأنوثة، ومن الزوايا التي اختار هو أن ينظر إلى المرأة من خلالها؛ لذلك برز التباهي بالجسد أمام الرجل، وجاء الرهان عليه بغاية تأصيل العلاقة به، ورتبت المرأة على هذه العلاقة معاني النجاح والفشل، والربح والخسارة !
وقد عدّت هويدا صالح في كتابها «نقد الخطاب المفارق» الكتابة النسائية من هذا المنظور كتابة بوعي ذكوري صارخ، يتعارض مع سعي هذه الكتابة إلى كشف المسكوت عنه في الثقافة الذكورية المتحيّزة ضد المرأة، وهذا ما عبّرت عنه النهاية المريرة التي أف ضت إليها المرأة في أغلب النماذج المتبنية لهذا النمط من التمثيل، كالطلاق في رواية «الأرجوحة» والقتل في رواية «صابرة وأصيلة» .
وحتى حين ننظر إلى هذا التمثيل على أنه كشف عن مغبّة استلاب المرأة لهويتها من خلال تقديم جسدها وفق مقتضيات النظرة الذكورية فإنّ دوران الكثير من روايات المرأة على هذا النمط من التمثيل، وعجزها عن التخلّص من تبعاته في بناء شخصية الأنثى، يعدّ تكريساً للمنطق الذكوري من حيث أرادت مواجهته !
الأسئلة التي تصلح خاتمة لهذه المقالة:
- على أيّ أساس وجد بعض النقاد في هذا النمط من التمثيل شكلاً من أشكال تحرّر المرأة ؟
- فكيف يمكن أن نقرأ فيه معنى التحرّر وهو يكرّس تبعية المرأة حتى في صورته الإيجابية كما رأينا مع فاطمة في رواية «وسادة لحبك» ؟
- وهل ثمة قيمة من تحرّر الكتابة (الاسترسال في نشر تفاصيل الجسد) إن لم تكن ظلاً لتحرر الفكر واستقلاله؟!
أرجو أن أجد إجابة عن هذه الأسئلة عند أستاذنا الدكتور عبدالله إبراهيم.
خالد الرفاعي - الرياض