هو كتابٌ صدر الآن بعنوان (سعيد عقل.. آخر أمراء الشعر العربي) للشاعر الصحافي الصديق لامع الحر.. ولأنني أعرف لامع الحر جيداً أستطيع أن أؤكد تميز هذا الكتاب عن الكتب الكثيرة المؤلفة في سعيد عقل بالصدق. فلامع ممن لا يجيدون الكذب أصلاً!
يقول لامع الحر في مقدمة الكتاب: (لم أفكر لحظة في إصدار كتاب حول سعيد عقل. فالشاعر يمثل مرحلة أشبعت دراسة وتمحيصاً، على المستوى الأكاديمي، وعلى المستوى الصحافي أيضاً. والكتابة عنه تحتاج إلى مفاتيح جديدة لاقتحام عالمه الشعري وسبر أغواره).. ويضيف لامع، بعد شرح للعلاقة بينه وبين سعيد عقل: (إلاّ أن الزميل الناشر سليمان بختي كان يطالبني باستمرار بالعمل على إصدار مؤلف يتناول صاحب «كما الأعمدة» لإيضاح صورة الشاعر على غير مستوى وصعيد أمام جيلنا والأجيال المقبلة. والمعروف أنه من النادر أن يطلب ناشر من أحد كتاباً، وذلك لأن شؤون النشر هذه الأيام لا تخفى على أحد).!
ولم يوضح لامع إن كانت مطالبة الناشر بدأت في حياة الشاعر أم جاءت بعد موته الذي مضى عليه عامٌ كامل قبل إصدار هذا الكتاب؟ على كل حال أنا أود إيضاح أمرين، قبل الحديث أو النقل عن هذا الكتاب، وهما: أنني مصاب بحساسية خاصة تجاه كل إنسان يموت.. فكل إنسان عرفته حياً عندما يموت يتحوّل ملاكاً بالنسبة لي، فلا أجرؤ أبداً على انتقاد أو تجريح أي إنسان بعد موته، ومهما تكن مواقفه في حياته لا أقول بعد وفاته سوى ما أراه طيباً عنه ويشفع له عند الله. والأمر الثاني، أن لي مع الشعر قناعة لا تتزحزح أبداً.. وهي أن على الشاعر الحقيقي أن يرى كل قصيدة ينتهي منها، وحتى قبل نشرها، أعظم قصيدة كتبها شاعر. فإن لم يرها أعظم قصيدة لأعظم شاعر فالأولى أن يمزقها ويشطب عن نفسه صفة شاعر. وهذه القناعة عندي، لا أدري من أين أتت، ولكنني أراها الآن، في هذا الكتاب، إحدى أهم قناعات سعيد عقل.. فلربما هي قد وصلتني منه قديماً في قراءاتي الأولى.. لست أدري، ولكن إذا اتخذناها كمبدأ عند شاعر بحجم سعيد عقل فسوف نتقبل منه ونتفهم كل اعتزازه بقيمة شعره مهما تجاوز هذا الاعتزاز كل اعتزاز آخر على كوكب الأرض.
الكتاب نصفه يتناول سعيد عقل الشاعر ونصفه يفتش في سعيد عقل السياسي، وسأتجاوز عن النصف الثاني وأنقل شيئاً أعجبني من الأول. فتحت عنوان (وحده كان المهرجان) والحديث عن مهرجان أقامته مدينة زحلة احتفالاً بإزاحة الستار عن تمثال للأديب الراحل راجي الراعي، وكان أهم المدعوين لإلقاء قصيدة في المهرجان هو الشاعر سعيد عقل – وكان في التسعين من عمره – يقول المؤلف لامع الحر:
(عندما وصلت إلى الحديقة الشاسعة، خفت على كبيرنا من أمرين: هل سيمتلئ هذا المكان الشاسع بجمهور الشعر؟ وهل ستراعي زحلة – عروس الشعر – عودة شاعرها بعد عقدين ونيّف فتعبّر عن شوقها إليه، بما يليق بها وبه؟ والثاني هو خشية على الشعر نفسه، حين يُقرأ في الهواء الطلق، الذي لا يوفر غالباً الهدوء الكامل، للإصغاء المتناهي والاستمتاع بهطول الصوت وتدفقه، كما زخات المطر. وكم كانت المفاجأة سارة عندما تدافعت الجماهير واحتشدت للاستماع إلى آخر العظماء في شعرنا الخليلي. جمهور لم يخلُ من الرسميين الذين فجأة صاروا من عشاق الشعر ومن مشجعيه الميامين، الذين يتكبدون المشقات لحضور عرس إبداعي نادراً ما يتكرر. والمفاجأة الثانية تجلّت في صوت سعيد عقل الذي كان وسع المكان المنطلق إلى الآفاق، على الرغم من ابتعاده عن الميكروفون في أغلب الأحيان، غريداً يمسك الشعر ويقبض عليه كأنه «اللقيا» التي لم يعثر عليها سواه).
والكتاب أيضاً ينقسم إلى نصفين، فالنصف الأول سردٌ وتحليل لحكايات ومواقف عاشها المؤلف مع الشاعر – كالفقرة المنقولة – والنصف الثاني حوارات أجراها المؤلف مع الشاعر على فترات متفاوتة من حياته التي كانت متخمة بالأحداث. وفي الحوارات أيضاً جانب سياسي لم يعد يعنينا في شيء، فسعيد عقل (4 يوليو 1911 – 2 ديسمبر 2014) جاء إلى الدنيا ليكون شاعراً ورحل عنها وقد ترك شعراً.. وكل ما عدا الشعر لا يعنينا في شيء!
سأقتطف من الحوارات بعض أسئلة المؤلف وأجوبة الشاعر عنها:
* سعيد عقل قارب – بإذن الله – القرن (مئة سنة)، كيف تقضي نهارك اليوم؟
- عندما كانت عيناي قويتين كنت أبدع شعراً. ولو كان معنا فؤاد الترك أو جورج شكور لرأيت كيف يرويان أمامك أشعاراً لي، عندما أسمعها أنا أطرب لها ويقف شعر رأسي إعجاباً وفرحاً بها. إلى حد أتساءل: هل صحيح أنني كتبت شعراً بهذا الجمال؟! اللافت في شعري أن فيه غرابة وجمالاً غير موجود في الشعر الأوروبي كله، أي شعر أثينا وروما وفرنسا، وأنا أعرف شعرهم جيداً، ورغم ذلك، ليس لديهم شعر بهذه اللعبة. هذا الأمر يبقى في بالي، فأفتخر بأنني كتبت شعراً غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك أجمل شعر في العالم وأعظمه (أثينا وروما وفرنسا) أنتجوا شعراً هو الأجمل في العالم، لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري. هذا الكلام فيه شيء من الكبر والافتخار بالنفس، لكنه صحيح.
* غير الشعر ماذا تفعل خلال النهار؟
- لا أعمل أكثر من الشعر.
* ألا تحضر تلفزيونا؟ ألا تسمع أخباراً؟
- أنا شاعر.. وماذا يمكن أن أعمل غير الشعر.
* يقول سليمان العيسى وهو أكبر شاعر في سوريا: إذا العرب أعطوا كل مائة سنة سعيد عقل يعيشون مليار سنة.
- وأنا أرد عليه: إن شاء الله العرب يعطون شعراً أفضل من سعيد عقل. لا أقبل أبداً أن يقف الشعر عند حدود سعيد عقل. يجب أن يكبر الشعر ولو كان شعر سعيد عقل كما يقول سليمان العيسى، أقول له مرة أخرى أنا منتظر أن يعطي العرب شعراً أفضل من شعري أيضاً. أنا لا أحب الكبرياء التي بلا طعمة. وأريد أن يكون غيري مثلي وأحسن. وإذا كانوا الآن ليسوا كذلك، فيفترض أن يصبحوا الأفضل في المستقبل.
* لسعيد عقل مريدون كثر يقلدونه شعراً وسلوكاً، ما هو موقفك من هذه النسخ المكررة؟
- التقليد شيء والاقتداء شيء آخر. إذا كانوا يقتدون بسعيد عقل فهذا شيء حلو، أما الذين يقلدونه فهؤلاء كأنهم يكتبون نكتاً. يعني بيضحّكوا. لا تحترم المقلّد، أما الذي يقتدي فهذا شيء عظيم.
ماذا بقي اليوم من قصيدة كل من: الجواهري؟
- الجواهري شعره مرّ في شعري، إنما لم ينوّع. ما بدّي أهاجمه..
* لا تهاجم، نريد رأياً فقط.
- شعره من الشعر العربي.
* التقليدي؟
- نعم. التقليدي.
* إلياس أبو شبكة؟
- لا أريد أن أهاجمه، شو بدّي قول شاعر «كرهتجي».. ماذا أقول عنه!
* قل ما تريد.. أنا أحترم رأيك
- كتبتُ قصيدة فيه، هذه القصيدة تعاتبه لأنه راح يكره وأقول له: لديك قصائد حلوة، لماذا لم تقتصر نفسك على ما هو جميل!
* إيليّا أبو ماضي؟
- أيضاً لديه قصائد جميلة.. كل الشعراء لديهم ما هو جميل.
* أحمد الصافي النجفي؟
- لديه شعر «طيّوب».. كل شيء بقلّك هالقد!
* الأخطل الصغير؟
لديه شعر حلو، ولهذا السبب أوحى لي بقصيدة عظيمة فيه.
* أديب مظهر؟
- أثّر على عدد من الشعراء، منهم صلاح لبكي، له قيمة.
* عمر أبو ريشة؟
- كنت أحبه، لديه شعر حلو.
* أحمد شوقي؟
- يكفي أن يكون قد تغنى بزحلة.
* نزار قباني؟
- شاعر شاعر، هذا الشاعر يكفي أن يكون قد قال «سعيد عقل أكبر شاعر لدى العرب إذا كان يرضى» فقلت له: لا يا نزار، أنا أفاخر بذلك ولكن «إذا كان يرضى»، هذه الكلمة فيها كبرياء ولذلك بشعة. أنا أكون سعيداً عندما يقول العرب عني بأني أفضل شاعر.
* معروف الرصافي؟
- أحبه. كان يعرف كيف يحب لبنان. الرّصافي أحبّنا كثيراً.
* خليل مطران؟
- لديّ قصيدة شهيرة فيه، وله تمثال في بعلبك، كتبت من خلاله قصيدتي.
* محمود درويش؟
- لم أعرفه. لم أعرف شعره، ولهذا لا أستطيع مدحه أو ذمه، لم أقرأه.
* محمد الفيتوري؟
- كنت أحبه.
* أدونيس؟
- كان «يحرتق» على الشعراء، وأنا لا أحب هذا النوع من الشعر. اكتب شعراً جميلاً ولا تلجأ إلى الحرتقة على الشعراء!
* أنسي الحاج؟
- لديه كتابات حلوة وناعمة.
* شوقي أبي شقرا؟
- أيضاً لديه كتابات حلوة وناعمة.
وبعد.. فهذا الكتاب ممتع بشكل غير طبيعي، وفيه عن سعيد عقل ما لم أره في أي كتاب عن سعيد عقل – فهو بمثابة الصندوق الأسود له! - فشكراً لامع الحر.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com