سعى الشاعر العربي حثيثاً إلى التجديد في الشعر، فسما به إلى آفاق واسعة، فكانت مظاهر التجديد على مستوى اللغة والتصوير، وجاءت على مستوى المعاني، ووردت على مستوى الأوزان، والإيقاع عامةً.
ولعل التجديد الذي ينشده الشاعر العربي في إيقاع القصيدة وردَ في كثير من نماذجه متزناً واعياً، وجاء في بعض شواهده الأخرى مضطرباً يحتاج إلى مزيد الوعي، دفع به التقليد إلى الوقوع في مزالق إيقاعية ربما لا يتنبّه لها إلا القارئ الذي يملك أذناً موسيقية.
وبتأملي كثيراً من النصوص التفعيلية وجدت أن بعض الشعراء يكتبها على (فاعلن) تفعيلة البحر المتدارك، وقد أكثر منها رواد شعر التفعيلة. وأزعم أن بعضهم يتعمد إنشاء قصيدته على هذه التفعيلة؛ فجاءت قصائدهم مشوهةً إيقاعياً؛ لأنهم دون وعي ينتقلون من (فاعلن) التي تسير سيراً رتيباً هادئاً إلى (فعولن) تفعيلة المتقارب التي تقفز قفزاً رشيقاً، وهي أسهل موسيقيا من فاعلن.
وهذا المزلق ربما وقع فيه شعراء كبار، من قبيل أمل دنقل، الذي يقول في قصيدة «مراثي اليمامة»:
صار ميراثنا في يد الغرباء
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
...
ودراهمنا فوقها صورة ...المغتصبْ
أيادي الصبايا الحنائنْ تضم على صدره نصف ثوبٍ (1).
فقد تحول أمل دنقل من فاعلن إلى فعولن دون أن يشعر بذلك عند السطر: «أيادي الصبايا الحنائنْ تضم على صدره نصف ثوبٍ»، فضلاً عن اضطراره إلى تسكين نون الحنائن!
والغريب أن محمود درويش وهو الشاعر المعروف بإجادته للإيقاع يقع في هذا الخلل! يقول درويش:
افترقنا على درَج البيت. كانوا يقولون:
في صرختي حذرٌ لا يلائم طيش النباتات،
في صرختي مطر؛ هل أسأتُ إلى إخوتي
عندما قلت: إني رأيت ملائكة يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أتذكّر أسماءهم. ولا أتذكر أيضاً طريقتهم في الكلام.. وفي خفة الطيرانْ (2).
فقد انتقل درويش -ولم يشعر- من فاعلن إلى فعولن عند: «ولا أتذكر أيضاً طريقتهم في الكلام..».
ونجد عليّاً الدميني يقع في مثل هذه الاختلالات، ومن خلال تأملي لديوانيه: بياض الأزمنة، ومثلما نفتح الباب؛ وجدتُ أن أكثر نصوصه التفعيلية على (فاعلن)، ويندر أن ينظم على غيرها. يقول الدميني:
زمنٌ في حقائب مترعة بالغبارِ
وأنثى المدائن في خدرها تستريب النهارَ
وأرجوحة العاشقين تميل هنا وتقوم هناك، فلا الماء من جمرها يستقى،
ولا الصوت من صمتها يستعارْ
أفق من أصابع تركية البُنّ، قاماتها من تتارْ(3).
ويُلحظ أنه عند السطر: «ولا الصوت من صمتها يستعارْ» تحول إلى فعولن، ثم عاد إلى فاعلن!
ويقول جاسم الصحيّح في قصيدته «رائق مثل أرجيلة في المساء»:
لغريب يدس مدينته في الرسائل
لكنه يشتكي من خيانة بعض الظروف..
وللوقت يلبس قمصانه البيض
ثم يغادر كالطفل من بيته
كي يلاعبنا في شوارع أوهامنا الواسعهْ
هنا في المكان الذي يلتقي اليأس فيه بأصحابه (4).
وفي السطر الأخير ظهر جلياً انتقال الصحيّح من فاعلن إلى فعولن!
وفي تجربة عبدالله الوشمي نقرأ قوله:
وطني..
عندما بدؤوا يعزفون على الحب أوتارهم
كنت وحدي أغني على معزفك
ووحدي أنا كنت مَن ذبح الغول حين بدا رابضاً
فوق سور المدينة(5).
إذِ انتقل ولم يشعر في السطر الأخير: «ووحدي أنا...» من فاعلن إلى فعولن! وعاد بعد ذلك إلى فاعلن.
ويقول إبراهيم زولي:
كما يحتفي الخبز بالملح
المدينة نائمة بعد منتصف الليل
منذورة للحنين الفصيحْ
لست وحدك
في هذه الساعة الآثمة(6).
ويلحظ أنه ابتدأ بفعولن ثم تحول إلى فاعلن. وفي القصيدة مواضع لا بد من الإيماء إليها، فهو يقول في مقطع القصيدة الرابع:
مطرٌ يتخفى
سوف يأتي
صباح جديد غدا
والذي ظهر لي أيضاً أن الصواب لكي يستقيم الوزن: يختفي، وليس يتخفى.
هذه شواهد لشعراء بارزين لهم حضورهم، وعند غيرهم من الشعراء شواهد كثيرة تدل على أن ركوب هذه التفعيلة ينطوي على قدر من الصعوبة، يستوي في ذلك أن يكون النظم عليها تلقائياً، أو يجيء متعمَّداً، وتدل أيضاً على أن الخلل في الإيقاع يغضّ من مستوى القصيدة الجمالي؛ لأن الإيقاع من أهم ركائز الشعر.
ومن ذلك قصيدة علي الجلاوي الشاعر البحريني «اعتقال مدينة»؛ إذ يقول:
حاصروه
رأيت الخنادق ترصده
والممرات تسحب خيط خطاه
العصافير قد سقطت مذبحهْ
وكان هناك يغطي مواويله (7).
ففي السطر الأخير كان التحوّل من فاعلن إلى فعولن مربكاً لإيقاع القصيدة.
وكذلك أسماء الزهراني في قصيدتها «مسافة من شجن» تقول:
لست أدري!
لماذا إذا انفلق الحزن عن دمعةٍ فجّةٍ
تطل ابتسامته من ثنايا الزحام!
تتكاثف حول ابتسامته غيمةٌ
قبل أن يمطر الشجن العذب
حتى تسيل القلوب
تفيض بأسرارها
وفي الطرقات القديمة ... (8).
وظاهر أن الشاعرة تحولت دون وعي من فاعلن إلى فعولن في السطر: «تطل ابتسامته من ثنايا الزحام!»، ثم عادت بعده إلى فاعلن، وبعد ذلك تحولت إلى فعولن عند السطر: «وفي الطرقات القديمة»، وهذا التحول في مقطع قصير كهذا يدل على أن هذه التفعيلة مركب صعب.
والشواهد في هذا كثيرة لو أردت الإكثار؛ ولذلك ينبغي للشاعر أن يتعامل مع أوزان الشعر كلها بدقّة، ومع هذه التفعيلة خاصة بدقةٍ أكثر؛ لأننا رأينا أن شعراءَ كباراً كأمل دنقل ومحمود درويش والصحيّح والوشمي -مثلاً- يقعون فيها، وأزعم من خلال مطالعة بعض قصائد الشعراء الشباب أنهم يتعمدون النظم عليها لأنها –بحسب قراءتي- وردت لدى شعراء الحداثة أكثر من سواهم، فهم يحاولون النظم عليها تقليداً، ولعل هذا التعمّد هو ما أوقعهم في هذا الخلل الإيقاعي.
** ** **
(1) الأعمال الشعرية، ص414-415.
(2) لماذا تركت الحصان وحيداً، ص20-21.
(3) بياض الأزمنة، ص35.
(4) ما وراء حنجرة المغني، ص147-148.
(5) البحر والمرأة العاصفة، ص7.
(6) الثقافية، العدد: 476، 18/1/1437ه.
(7) المدينة الأخيرة، ص28.
(8) آية الليل، ص57.
د. سعود بن سليمان اليوسف - الرياض