اعتدل جالساً ووضع يده على إحدى ركبتيه وأمسك بيده الأخرى لحيته الطويلة ثم رفع رأسه وتابع قائلاً... هذه المقدمة المثيرة للانتباه إحدى المعلنات المألوفة لافتتاح قصة سردية، وهي حال تغري السامع والقارئ للإنصات والقراءة، فالمتلقي يخضع سريعاً للعبة السردية ويقبل بشكل طوعي أن يُستدرج ويخدع في متاهات السرد ومتاحفه، وهي عوالم غريبة تمتلئ بالتفاصيل المحبوكة بعناية فائقة، فالبناء فيها في غاية التعقيد وإن غدا سهلاً ميسراً للموهوبين، إن منطق الاختيار فيها والتكثيف الحدثي والتزمين ومناطق الرؤية وتعدد الأصوات واختلاف الأساليب يجعل منها قطعة حياتية منسوجة بأبعاد مختلفة وهذا ما يورط القارئ والسامع والمشاهد فيما لا يستطيع دفعه أو الإعراض عنه. وهو أيضاً يألفها ويتعرّف سريعاً على مقدماتها، فهو مرتبط معها بعقود قرائية تضمن له تواصلاً مفهوماً ومنطقاً متوقعاً، فهو يتقلب فيها بين نشوة التفاعل وغواية الانتظار. وهذا ما جعل السرد ينتشر سريعاً في الثقافات ويسافر بين الأمم ويتنقل في الخطابات حتى كوّن له أجناساً أدبية شهيرة بداية من القصة البسيطة ومروراً بالمقامة والمنامة وصولاً إلى الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جداً. ولعل من أسباب قوة هذا العنصر الخطابي قدرته على التلون والتكيّف في أجناس جديدة تلائم إنسان العصر وتستجيب لحاجاته وتجيب عن أسئلته، فقد كان الناس يتحلقون حول القاص و(الحكواتي) لينفذوا من صوته إلى عوالم لذيذة يسعدون بالانصياع إلى قوانينها ويبتهجون بالاستماع إليها، ثم تعقدت الحياة وتعقدت تفاصيلها فأنتج الإنسان قصته الطويلة المعقدة المليئة بالتفاصيل التي تشي بوحدته وغربته. لقد تنبه النقاد قديما إلى خصوصية هذه العوالم وقد أسهم التراكم المعرفي بداية من الشكلانيين ومروراً بأعمال الإنشائيين والبنيويين إلى إيجاد منجز نقدي مواز للمنجز الإبداعي السردي فكان علم السرد الذي ابتكر جهاز إجرائياً أمكن معه توصيف الخطاب السردي وإظهار تفرّده. وقد تزاحمت بعد ذلك الدراسات ووجهات النظر في مقاربة هذا الجنس الأدبي والقبض على قوانينه وفهم منطقه، لكن الأصوات لا تزال خافتة في الحديث عن وظائفه التداولية وأبعاده الحجاجية، فأسئلة مثل : كيف يقنع المؤلف داخل الخطاب القصصي المخاطب الحكائي بأطروحته ودعواه؟ وهل تحمل القصة بالضرورة دعوى أو أطروحة؟ ما هو دور الخطابات السردية في محيطها التواصلي؟ وما هي أدوارها الإقناعيةيالخطابات الأخرى؟ هل للشكل القصصي فعالية حجاجية؟ تظل فقيرة الإجابات، وتظل عوالم السرد وممالكه عصية على أية أقدام جديدة تطأ أراضيها، إن تغيير زاوية النظر من داخل الخطاب السردي إلى فحص وظيفته وطريقة اشتغاله في محيطه كفيل بتأسيس فهم مختلف وجديد، فهذه الميادين غنية بالملحوظات ثرية بالظواهر. فبداية يضمر منطق الخطاب السردي أبعاداً حجاجية تعزّز قوته الإقناعية وتجعله شكلاً محبوباً ومألوفا لدى المتلقي، وأبرز هذه الأبعاد أو هذه الخصائص (الإيهام بالواقع والإدهاش والتشويق)، فالإيهام بالواقع خصيصة اتصالية، أي أن القصة تدّعي الاتصال بواقع الإنسان وحياته وتتمثّل بمنطقه وتخضع لقوانينه، فهي ليست غريبة عنه، وهذا يقربها منه ويشده نحوها ؛ لأنها تحكي شيئا شبيها به وبحياته، وهذا ما يفسر سهولة التورط العاطفي فيها، فهو يرى نفسه في أحداثها ولذلك ينجذب للتفاعل معها. وحتى لو كانت القصة عجائبية أو خيالية أو على لسان الحيوان فإنها تظل تحاكي منطق الإنسان وتدّعي مشاهده وتحتكم بقوانينه، فالأبعاد النفسية ومنطق الأحداث وبناء التفاعل كلها تستدعي النمط الإنساني ومرحلته الثقافية. وكلما ضعفت هذه القوة في القصة ضعف تواصل المتقبل معها وقلّ تأثره بها. أما الإدهاش فهو خصيصة انفصالية وهي تضاد الأولى، ففي الوقت الذي تدّعي فيه القصة أنها جزء مشابه لواقع الإنسان وحياته تحاول أيضا التمايز عنه ببناء مدهش يثير الانتباه، فهي ليست قطعة حياتية عادية وإنما تكثيف مقصود وصناعة مثيرة لمواد الحياة وتفاصيلها، فأحداث حياتنا ليست قصة وإنما القصة تلك الطريقة المدهشة التي يستطيع بها المؤلف تزمين الأحداث وتنضيدها في خطاب سردي ممتع، إن الإدهاش قوة إقناعية فاعلة تجعل من خطاب القصة مقبولاً شديد التأثير، وهذه الخصيصة موجودة في جميع الخطابات الإبداعية الأخرى، بل إن الإبداع في جوهره يقوم على الإدهاش، نحو الموسيقى والرسم والشعر. أما التشويق فهو بعد حجاجي يبنى عليه الخطاب السردي في داخله، وهو يضمن ارتباط المتلقي بالقصة حتى نهايتها، إنه نوع من الحلوى النفسية التي يستخدمها المؤلف للتلاعب بقارئه، فالأحداث ترتبط برباط مشوق يجعلها شديدة الإغراء، وهذا ما جعل الناس يلاحقون حلقات مسلسل تلفزيوني أو رواية متعددة الأجزاء.
كما تظهر مراقبة القصة في علاقاتها مع الأجناس الأخرى أبعادا تداولية عميقة وبالغة التأثير، فتوظيف منطق القصة مثلا داخل المبنى الشعري يحيل القصيدة إلى نوع مختلف يستدعي متلقيا جديدا له توقعاته المختلفة، وهذا ما جعل شعر عمر بن أبي ربيعة مثلا يحوز القبول ويشهر بين الناس مع افتقاره لأسباب التجويد في التقاليد الشعرية المألوفة من إصابة التشبيه وابتكار المعاني وغيرها. و الأمر كذلك في جنس الكتابة التأريخية التي تأثرت بمنطق القصة ونظامها، فاستحالت المرويات التأريخية إلى قصص فنية حوّرت خصائصها البنائية، فالخبر التأريخي يرتبط مع مخاطبه بعقد تعقد الأهمية فيه على نقل الأحداث كما هي أو نقل الحقيقة كما يراها الناقل، لكن هذا اختلف مع عملية تقصيص التأريخ، إذ حشرت الأخبار التأريخية في قوالب فنية قصصية ليضمن لها كاتبها القبول والانتشار وليستدرج بها متلقي القصة الفنية، ففقد الخبر التأريخي جراء هذه العملية بعضا من تفاصيله وزيد أجزاء أخرى وخضع لإكراهات التنضيد الفني من افتتاح وخاتمة وذروة ومنطق فني.
د.عادل بن علي الغامدي - الرياض