الاستثمار في عقول الأطفال استثمار ناجح. فإذا أردت أن تستنسخ من شخصيّة عظيمة عدة نُسخ ما عليك إلا أن تسكب ما عندها في جوف طفل، وفي تصرف طفل.
والأطفال أخطر الأدوات أيضًا، إذا ماشُكّلوا تشكيلًا مُعاديًا، وهذا ما التفتت إليه داعش في تجنيد الصغار، وسكب تعاليمها في عقولهم الصغيرة؛ لتضمن لها ديمومة تمتد بعمرهم، حتى وإن لم تستفد منهم في زمنها القريب؛ فهي تعمل على تشكيل عقول، وتلغيم قلوب تحفظ لها اسمها عبر التاريخ.
عندما كان ابني طفلاً ألحقناه بدار لتحفيظ القرآن عند شيخ هندي في مسجد الحي، جاءني ذات يوم وقال لي: أمي أتسمحين لي بأن أكسر (الريسيفر) بنفسي؟ قلت له ولماذا؟! قال: أنا أريد قناة المجد، ولا أريد هذه القنوات والأستاذ قال: إذا دخلتم البيت اكسروه.
استدرجته فسألته: هل قلت لي ذات يوم إنّك لا تريده؟! قال: لا!
قلت: إذن كيف تكسره مباشرة؟! أولًا يابني إذا رأينا المنكر يجب أن ننصح ونحاور بلين، ثم بعدها نلجأ للتغيير بدرجاته التي في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالله أمرنا بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فكيف نبدأ بالتخريب أولًا؟!
تلك العقول الصغيرة أشبه ما تكون بريبوتان يتقن ما يطلب منه، ولا أدل على ذلك من انتشار مقاطع الأطفال الذين يبهروننا بحفظ طوال السور، والمتون، وعيون القصائد بحركاتها وسكناتها، حتى كأنهم نسخة طبق الأصل ممّن درّبهم.
بعض الدول فطنتْ لهذا الكنز العظيم الذي تجاهلناه نحن العرب، رغم تاريخنا المليء بالحكايات الصادقة عنه.
فدولة (فنلندا) تُعدُّ من أهمّ الدّول التي تهتم بالتعليم عامة، والابتدائي خاصة، حيث إنّ كلَّ معلميهم في المرحلة الابتدائية، يحملون شهادة الماجستير، وبالتالي هم أعلى رواتب من غيرهم إيمانًا منهم بالمثل القائل: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»
هذا التشبيه الدقيق البليغ الذي حفظناه منذ الصغر ماهو إلا مقولة صحيحة، لها من الواقع ما يُصدّقها؛ فالطفل كالوعاء الفارغ إذا امتلأ علمًا صار المجتمع عالمًا.
ماذا لو التفتت وزارة التعليم عندنا لهذه الكنوز المهدرة؟
ماذا لو استثمرت في الصغار حتى تضمن جودة المخرجات للمراحل العليا: (المتوسطة والثانوية والجامعية)؟
ماذا لو اتبعت نهج فنلندا، وجعلت رواتب معلمي المرحلة الابتدائية هي الأعلى؟ ماذا لوأخضعتهم دونًا عن غيرهم لاختبارات دقيقة، لانتقاء الأفضل والأجدر بهكذا عقول؟!
ماذا لو سلمنا عقول صغارنا لعلماء يجمعون بين الدين الوسطي، والعلم، والأدب؟
ألن يكون هذا محفزًا لكلّ معلمي الوطن ؟
أطفالنا يحتاجون لمن يُدّرسهم العلوم بحب، لمن يزرع فيهم حُبّ العربية، ومكارم الأخلاق، يحتاجون لمن يقوي شوكتهم بها.
يحتاجون في ثلاث السنوات الأولى على الأقل، أن يدرسوا الفنون، والآداب، وفي ثلاث السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية؛ تبدأ العلوم العلميّة والاختراعات، والتجارب.
كُلّنا أمل أن تلتفت الوزارة؛ لإعادة هيكلة مناهج المرحلة الابتدائية، واستقطاب الأكفاء لها؛ لننعم بجيل يُقدّر اللغة والآداب: إن تحدث كان خطيبًا، وإن كتب كان أديبًا، وإن استفتى قلبه وجد الله فيه.
نحتاجُ لتأسيس البنية التحتية، بالالتفات لهذه المرحلة، حتى تنام بقية المراحل قريرة العين، لا تخشى جيلًا ضائعًا.
أطفالنا في المرحلة الابتدائية يا وزير التعليم كنز، وأنت بقراراتك أهل لأن تعيننا على أن نحافظ على هذا الكنز، لأجل ديننا، لأجل لغتنا، لأجل هويتنا.
د.زكية العتيبي - الرياض