تداول الجمهور في الأيام القليلة الماضية مقطع فيديو يصوّر مدير تعليم يتوعَّد ويهدد طالباً بالمرحلة الثانوية انتقد بعض المسارات التربوية بوعي وجرأة لم يعهدها صنّاع القمع والترهيب وتكميم الأفواه. لم يلق الطالب شيئاً مما يبحث عنه، وانهالت عليه عبارات التوبيخ والتحقيق والتعنيف، وانتهت المسرحية بعبارة «تعال لي المكتب بعد اللقاء» .
لم يتجاوز المشهد عدة ثوانٍ لكنه اختصر مجلدات من العلل التربوية التي تعطّل الأداء، وتزرع في نفوس الأبناء الخنوع والجبن وضعف المواجهة، وترمي بالمؤسسة التربوية في أدغال تنأى عن مفاهيمها الحقيقية التي أصّلها علماء هذا الحقل على مر العصور.
تتفرّغ وزارات التربية لتحديث المباني، وصياغة المقررات، وتعديل بعض السياسات لكنها تخفق كثيراً، وتعود في كل حقبة إلى نقطة الصفر حين تفشل في تأصيل قيم الحرية والمشاركة واحترام العقل، ورعاية مبادئ النقد وأدبياته، والإيمان بقوى المتعلمين ومواهبهم، وتعزيز نمو الإنسان المستقل بداخلهم بعيداً عن الاستنساخ والدعة المخلة بمكامن التفكير.
وتنفق جهات تربوية المال دعماً للدراسات الميدانية وقياس الرأي، وتنشغل عن وقائع تختصر لها مواطن الإخفاق وعمق المأساة، ولا ترى فيها دليلاً حياً صادقاً لا يجمّل ولا يحابي مثل هذا المقطع الذي صدّره عقل باطن محمّل بإرث ثقيل يعجز من يتبناه عن تقديم درس تربوي يليق بالإنسانية ومتطلباتها العليا.. وحين يكون المشهد بهذه التفاصيل أمام عدسات التصوير وفي محفل عام فكيف سيكون الحوار والفعل و»القمع» أيضاً في الغرف الضيقة والاجتماعات المحدودة وعلى صفحات الورق التي تدير الوقائع اليومية للعمل، وترسم مستقبله؟!
هذه العقليات الأحادية بكل أشكالها «مسبقة الصنع» تأتي نتيجة عمليات التلقين التي تهيمن على مقررات المدارس، ويقف خلفها تربويون، أو عاملون في التربية والتعليم، يكرّسون القبول دون اعتراض فيصبح العقل عاجزاً عن التحليل والنقد فيتفشى الخضوع والإذعان، لكن المعطيات المعاصرة هزمت كثيراً من رعاة وصنّاع هذه القوالب، وفتحت أمام جيل اليوم أنساقاً للحوار والجدل وتحقيق الذات والمشاركة المجتمعية وتنمية الفضاء المشترك مع ملاحظات تشكّل هواجس متنامية لكثيرين، وقد توقع البعض أن تعين المؤسسة التربوية أبناءها لتحقيق مزيد من الفهم وإدارة المعرفة لكنها، فيما يبدو، تهرول مسرعة نحو الأمس، وتتشبث به، وتعيق أجيالاً ستفقدها إن لم تلتق معها على مبادئ أولها تقدير الذات الإنسانية، والإيمان باستقلالها وحريتها على التعبير والعمل، وتنمية قدراتها عبر مقررات عصرية ومعلمين توفر لهم إدارتهم العليا التقدير والتأهيل، ثم عبر البرامج التربوية الشاملة التي تجعل المدرسة جزءاً من الحياة لا صفحة من الماضي المؤطّر بكثير من الأبوة الوصاية وادعاء امتلاك مفاتيح المعرفة والحياة.
فقدت التربية كثيراً من الرؤى المتقدمة بخروج الوزير الراحل محمد بن أحمد الرشيد واستوطنتها قيادات إدارية تقليدية، لكنها تعود الآن، كما أظن، إلى مسار عملي يستند إلى ثقافة واضحة ورؤى ربما حققت الإصلاح المأمول.
ولا أظن الإصلاح التربوي سيؤتي ثماره وبين الإدارة العليا والميدان قيادات هشة كالتي ظهرت في مقطع حي ومباشر بلا أقنعة كان صادماً وصادقاً ومعيباً يبرهن على الضعف في المهارات الإدارية والتربوية؛ هذا الضعف يحد من بوارق الأمل ويكره الضوء، ويعطل كل بادرة نمو، وينشغل بترويض من حوله، ويقمع قوى الجمال والحياة، ويظن كل حركة ضد الراكد خطراً على بقائه ومكاسبه الصغيرة.. وحين يحصل هذا في المؤسسة التربوية يكون الثمن باهظاً والضريبة موجعة يشترك مجتمع كامل في دفعها وعلى مدى طويل.
محمد المنقري - جدة