للتقنية تأثيرها الشعوري واللاشعوري على الإبداع وأدائه ، فالتقنية سخرت المبدع لها بل وقولبت التقنية طرق وأساليب ونماذج الكتابة بشكل عام، كما هو حاصل في التويتر الذي حدد الكتابة بمائة وأربعين حرفا مثلا ، وضخ هذا التطبيع الرقمي لدى بعض الكتاب والمبدعين طاقة التركيز ودربهم على قدرة التكثيف اللغوي بأقل الكلمات وفي مقابل ذلك تنفست خلايا المخيلة حرية التصور والتقدير والتحليق في فضاءات التأويل اللامحدود بالرقمي .
ومن ناحية أخرى فقد أكسبت وسائل التواصل الاجتماعي مستخدميها فرصا للتعبيرالأدبي بمستويات متفاوتة إلا أن بعضهم تجاوز مسألة التعبير من خلال الشبكات ، إلى مسألة التأليف ، وساعده على ذلك مايحظى به قلمه من قبول رقمي وإن كان ذلك من باب المجاملة أحيانا ، وربما كان جشع تجار النشر وراء تدافع إصدارات شتى دون تدقيقها وانتقائها ، فأضحى النشر تجارة رقمية أكثر منه قيمة وفكرا و ثقافة . و لاينطبق أمر كثافة النشر على فئة الناشئين من الكتاب بل على الفئات العمرية المختلفة. وأعتقد أن هناك من الشباب المبدع افتراضيا قدم نماذج أدبية ممتازة وهناك نماذج أخرى تشوشت بأعمالها الرؤى الإبداعية وتشوهت التصورات الناقلة للواقع الأدبي . ولاأعتقد أنه سيطول بقاء تلك النماذج الهشة من المؤلفات .فالكتابة والتأليف مهنة شاقة لاتحتمل الرفاهية ولن يحتملها أولئك الذين ازدانوا بها ولم تزدن بهم ..فنتاجهم مثل رماد سيتطاير .
وعلى قلة الكتب النقدية السعودية التي تتناول الأدب التفاعلي يأتي كتاب ( توظيف التقنية في العمل الشعري السعودي شعراء منطقة الباحة نموذجا ) للمؤلف الدكتور عبدالرحمن المحسني ليسد ثغرة فراغ كبيرة إذ يتناول توظيف الشاعر السعودي المعاصر - من خلال نموذج شعراء منطقة الباحة- للتقنيات المختلفة في نصوصهم الشعرية في أفقين مهمين من النصوص: يُعْنى أولهما بالتشكيل النصي العام سواء في عتباته النصية أو في مظاهر التشكيل الحاسوبي المؤثرة في تشكيل النص. ويتناول ثانيهما أثر التقنية على بنية النص ونسيجه. والدراسة تحاول أن تلم بأطراف تلك المؤثرات التقنية التي أصبحت جزءا من كيان النص لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عن حضوره وتأثيره.
ومن الناحية الإبداعية فقد أضافت التقنية إلى المشهد الشعري إمكانات مذهلة ومدهشة حيث تمكن الشاعر من رسم لوحة مجهرية لونية وفضائية وربما معرفية للون ومناخ ومكان وحلول لخزينته الإبداعية ومصادر إلهامه ، فاقترب للمتلقي مفسحا له مشاركته في تصنيف جمجمة خياله الشعري ، وقد يتصور بعضهم أن الشاعر الذي يكتب قصيدته في حضرة العالم الافتراضي هو شاعر تفاعلي مؤقت سريع الزوال مثل أيقونة تعبيرية أو رابط تشعبي مزدحم بالعناوين ، والعكس هو الصحيح فالشاعر الافتراضي هو الشاعر الورقي نفسه إلا أن مسودة الكتابة وقلمها استبدلتا بالماوس والكيبورد ، وربما أفقد هذا السلوك الرقمي الشاعر حصيلته الأولى من المسودات الورقية وطلاقة الخيال ومواكبة المزاج المتقلب وربما كانت الورقة أشد ضمانا من الملف الإلكتروني في الاحتفاظ بها وعدم تلفها أو ضياعها ، إلا أنني مع الوقت أدركت أن الفقد مشترك إلى حد كبير. وليس أوفي من البريد الإلكتروني والخزائن الرقمية على النتاج الفكري ومع ازدحام المساكن والأماكن وضيقها بأفرادها ومع الواقع الاقتصادي والإنساني المهدد بالحروب والثورات واقتلاع المرء من جذوره أيا كانت صلابتها وإرثها فالواقع المعاصرأضحى مختزلا في الهاتف الذكي أو الحاسوب . وكي تتصالح مع هذا التشعب الأيقوني الافتراضي لابد أن ننتمي إليه ونكون جزءا منه ونسعى إلى تنمية العلاقات الإلكترونية والتواصل الروحي المكاني والزماني والوجودي بالآخر وبالعالم الافتراضي.
هدى الدغفق - الرياض