حتى نفهم آليات الخطاب أكثر اقترح تقسم المفاهيم التي تحملها المصطلحات إلى مفاهيم ذكورية ومفاهيم أنثوية بعيدا عن أي نظرة للتذكير والتأنيث في المستوى اللغوي . إنه تأنيث وتذكير خطابي ويعتمد على أن بعض الأفكار تقوم بعملية الحركة لتلقيح فكرة ثابتة أو مهيمنة ، وتلك الأفكار هي أفكار مذكرة أو مفاهيم مذكرة ، في حين ثمة أفكار أو مفاهيم مهيمنة تكون بمثابة البويضة الخطابية جاهزة للتلقيح ، مايحدث في هذه المفاهيم البويضية أحيانا هو جعلها ذات شكل هلامي مسنن يستطيع استقبال معظم المفاهيم الذكورية مهما كان المفهوم لأن المسننات الهلامية المفاهمية يمكن أن تتوافق مع أي مفهوم ، ومع أي حالة ، ومع أي وضع، ومهما كان مصدر المفهوم ، وأياً ما كانت وظيفته حتى إن كان في بعض الأحيان مضادا أو مناقضا للمفهوم الأنثوي ، ولكن لا يتحول ذلك المفهوم ونحن نقصد من عملية التحول التي هي شرط لتفاعل الخطاب ونموه وإنما يحدث عملية جعل المفهوم جزءا من نسيج المفهوم الأنثوي نفسه بهدف تثبيت الخطاب على صورة ما ، ولا يستطيع عزل هذه المفاهيم الأنثوية وبيان أثرها إلا الحجاج المعقلن... والمفاهيم الأنثوية كثيرة ومنها المفاهيم المطاطية في النصوص واللوائح والقوانين والدساتير وهي عبارة عن مفاهيم استيعابية عامة قد تمثل الشيء ونقيضه أو ضديده في وقت واحد ، ومنها الشورى «وأمرهم شورى بينهم» لاستيعاب مفهوم الديمقراطية، ومنها «توفي رسول الله و ما من طائر يطير بجناحيه إلا وقد ترك لنا منه علما»، ومنها «الإسلام هو الحل» «الإسلام دين الحرية» «الإسلام دين العدل» «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» ومنها «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، والحديث بنا في المفاهيم السابقة يتشعب بنا وقد ناقشتها كثير من الكتب مناقشة مستفيضة ، ولذا من الأفضل أن نأتي بمثال إجرائي بسيط يمكن فهم هذه الآلية التي قد تستعمل كثيرا لوظائف اجتماعية وليس لوظائف فكرية إذ استعمالها في هذه الوظائف هو تعطيل وتوقيف لاغير ، والمثال هو حينما هجا النجاشي رهط بني العجلان فقد اشتكوه إلى عمر بن الخطاب فقال لهم وماذا قال فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة
فعادي بني عجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر بن الخطاب: إنما دعا عليكم ولعله لايجاب ، فقالوا: إنه قال:
قبيّلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليتني من هؤلاء أو قال ليت آل الخطاب كذلك. قالوا : إنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أقل للسكاك يعني الزحام ، قالوا فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
فقال عمر: كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه ، قالوا: إنه قال:
وما سمي العجلان إلا لقولهم
خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد ، وخير القوم خادمهم. فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا ، فقال ما أسمع ذلك ، فقالوا : فاسأل حسان بن ثابت ، فسأله فقال : ما هجاهم ولكن سلح عليهم ، وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي ، ولكنه أراد أن يدرأ الحدود بالشبهات ، فلما قال حسان ما قال: سجن النجاشي ، وقيل حده .
هذه القصة قصة صالحة لاستدلال التحولات الثقافية ، فعمر بن الخطاب في التفسير المتبادر إلى الذهن وهو أنه يريد أن يدرأ الحد عن الشاعر هو تفسير في سطح الخطاب، ولكن عمقه يفرض علينا أن نقول :
- إن العملية توضح كيف يمكن تحويل المفاهيم إلى مفاهيم أنثوية قابلة للمعنى وضده
- إن هذه العملية لتحويل المفاهيم تكون من السهولة بمكان في نوع من النصوص وهي النصوص الإبداعية لذا لاتدخل هذه النصوص في الحيز القانوني وإنما تدخل في الحيز الفني للخطابات ولذا كل العملية أن عمر بن الخطاب يريد أن يتولى شاعر الرد على الشاعر ، شعر بشعر.
- إن القصة ذات دلالة على أن عمر بن الخطاب يرى أن قيم الفنيات الشعرية منغرسة في المجتمع ، وأنها خاضعة لقانونها المستمر حتى مع حدوث قوانين الدين الجديدة التي ليس لها علاقة بهذه المسألة ، وهم يريدون أن تكون محاكمة الشاعر وفق هذه القوانين لذا قام عمر بعملية إجرائية لإيجاد مفاهيم أنثوية هلامية في نص الشعر الذي يقبل مثل هذه المفاهيم بسهولة تنبيها لهم بالعرف الاجتماعي الذي له طريقته في الرد على مثل هذه الحالات ، لكن إصرارهم واستشهادهم بحسان ، حول القضية من حالة الشعرية إلى حالة القانونية الخطابية والذي قام به حسان هو ما لم يرده عمر ، لأن الفني التخييلي لايخرج من الفني التخييلي إلا إلى الفني التخييلي ولو أنهم ردوا على هجاء الشاعر بهجاء آخر أو اسكتوه بما يغير شعره إلى مدح لكانت العملية الاجتماعية الخطابية تسير في إطارها الصحيح .
باختصار هم أرادوا التحويل الخطأ للخطاب عن طريق تحويل الأمر إلى شكوى دينية استغلالا لقيم الدين الجديد التي يرونها حولت كل شيء ، وعمر أراد التثبيت الصحيح للخطاب أن هذا الأمر لا علاقة للقضاء به هو تخييل ومن ثم لن يكون الحكم عليه سهلاً ، ويبدو أن عمر رضخ في النهاية لمخاطبة الناس على قدر عقولهم وانتهت المسألة في مجتمع تسوده حرية التعبير إلى أقصى حد في جميع النواحي الخطابية ، ولكن ملاحقة الشعراء لم تكف بعد ذلك وخصوصا حين يتحول الشعر من نص تخييلي إلى نص إيديولوجي محرض في وضع افتقاد حرية التعبير الذي طبع معظم التأريخ الإسلامي سوى فترات استثنائية تدل على عدم وجود هذه الحرية وأنه لامكان لها ولا يمكن أن تولد أكثر من الدلالة على أنها موجودة بالفعل .
د.جمعان عبدالكريم - الباحة