يحسن بنا في البداية أن نشير إلى أن الترجمات المنتشرة لكلمة «شنتوية» تدندن كلها حول معنى (سبيل الإله) أو الطريق إلى الآلهة، أو ما شابه ذلك.. والبعض يشرح ذلك بأن كلمة «شنتو» مؤلَّفة من جزأين: الأول «شن» ويعني الروح أو إله، والثاني «تا - تو» وتعني الطريق أو السبيل، فمعناها إذن: طريق الإله، أو الطريق الروحاني أو الروحي..
ومن هنا نستطيع الدخول إلى هذه الفلسفة على أنها ديانة، فهي الديانة الفلسفية الأقدم في اليابان، وتأخذ المساحة الأكبر من مساحة المعتقدات والموروثات اليابانية، ومن المعلومات القديمة عنهم أن السكان الأوائل الذين هاجروا من مجتمعات آسيوية مختلفة - كإندونيسيا مثلاً وغيرها - كانوا يطلقون على اليابان اسم (بلد الينبون) أي بلد الشمس، وذلك لوجود معتقد ياباني قديم شهير مسيطر، وهو أنَّ الشمس تشرق على الأرض من خلف جبال شاهقة تقع على الجزر اليابانية.. تشرق من اليابان لتضيء الدنيا كلّها، وما زال هذا الاسم متداولاً حتى اليوم.
وبذلك وغيره اتضح لي أن أقرب تفاسير ظهور هذه الفلسفة أو العقيدة، أنها بدأت أساسًا من عقائد دينية مختلفة، كعقيدة الشمس السالفة، وكعقائد أخرى أهم منها بكثير، على رأسها (احترام وتوقير الأسلاف) من الزعماء أو الأبطال أو القادة أو غيرهم من أمثالهم؛ ولكن هذا التوقير تحوّل مع الوقت وزيادة التقديس، فأصبح الشنتويون يعبدون أولئك الأشخاص.. وكان رجال القبائل الأكثر صيتاً ومكانة وسيادة، هم أشد الناس إحياء لفكرة توقير الأسلاف، فقد كانت عبادة أسلاف القبائل الكبيرة والمعروفة في اليابان خير ممهد لهذه العقيدة الجديدة.
وبذلك يتضح أن لهذه العقيدة بُعدًا سياسيًا فيما يظهر، فقد بذل كثير من الرجال البارزين في بعض القبائل جهودًا قوية، لتبسيط عقيدة احترام الأسلاف، وتقريب فلسفتها إلى أذهان العامة والبسطاء، لتحقيق (أهداف سياسية)، فكانوا يدخلون على هذه الديانة آلهة صغرى جديدة، وهم زعماء القبائل التي تدين بالطاعة والسمع والولاء لحكم الأسرة الغالبة.. ومع مرور الزمن، تبلورت نتائج هذا الخلط القوي بين الآراء السياسية والدينية، وبالتالي أثرت في الفكر الياباني منذ القدم تأثيرا بالغًا، انتهى إلى هذا الإجلال والتوقير والتقديس المشاهد في العصور المتأخرة، الذي يكاد يصل إلى حد العبادة لشخص (الإمبراطور) وغيره من رموزهم الكبيرة، بل يصل إلى العبادة في بعض الأحوال والأشكال، فقد ورد في منشور صدر عن وزارة المعارف اليابانية عام 1937م، هذه العبارة نصًا: «إن أرضنا بلد إلهية يحكمها الإمبراطور، وهو إله».
ومن خلال ما سبق وغيره، أستطيع إجمال أهم الأفكار والنقاط الأساسية الكبرى في الفلسفة الشنتوية على النحو التالي:
لاحظتُ - من خلال بحثي في عدة مراجع - تكرار كلمة «عبادة» كثيرًا في غالب الصفحات من الكتب التي تتحدث عن هذه الفلسفة الدينية، وبخاصة (عبادة الأسلاف) حيث تتكرر بشكل عجيب، جعلني أقتنع تقريبًا أنها النواة الكبرى لهذه الفلسفة، والنقطة الأهم التي تدور كل أفكار الشنتويين في محورها.
ووصل تقديسهم لأرواح الأسلاف إلى درجة (ربطها بأرواح الآلهة)، ومن ذلك إيمانهم أن أرواح الأسلاف المقدسة تحوم فوق بيوتهم وبيوت أبنائهم وذرياتهم، جنبًا إلى جنب مع أرواح الآلهة.
والإمبراطور هو الأساس المقدس الأول، والدولة والأرض هي كل شيء عند الشنتويين واليابانيين عامة، وقيمة الفرد العادي ضعيفة في الديانة الشنتوية، مقارنة بقيمة المجتمع والوطن والرموز المقدسة وبخاصة الإمبراطور والأسلاف.. ومن هنا جاءت فكرة «التضحية» بالنفس والمال والأفراد وكل شيء، في سبيل الوطن والدولة والأسلاف والإمبراطور، فهذا هو الشرف العظيم عند الكثيرين منهم.
ويتواصل الشنتويون بالآلهة بطرق غريبة في الحقيقة، لا أراها تنسجم أبدًا مع ما وصلتْ إليه اليابان من تقدم وحضارة ومدنية، ولله في خلقه شؤون.. ومن ذلك مثلاً أن البعض منهم يحرقون عظام بعض الحيوانات كالغزلان والسلاحف، ليتواصلوا مع الآلهة بهذه النار التي تنتج عن هذا الحرق، بطرق وأساليب معينة.
ويؤمنون كثيرًا بمركب عجيب غريب، يُسمّى مركب «تاما» الموجود لدى الأحياء وفي أرواح الأموات، فهو يهتز ويتحرك - في زعمهم - كلما تغيّرت فصول السنة أو بعضها، وهذا الاهتزاز يدفع الأموات لزيارة بيوت معارفهم من الأحياء، ونتجتْ عن هذا الاعتقاد طقوس دينية كثيرة مدهشة!.
ولديهم كتابان مقدسان شهيران مهمان، الأول يُسمى (الكوجيكي) المكتوب في عام 712م تقريبًا، وكوجيكي تعني السجلات الأثرية القديمة، ويحتوي هذا الكتاب على أساطير اليابانيين حول خلق العالم وانتشار وتناسل المخلوقات وارتباطها ببعضها، والدور المهم للشمس في ما يحدث.. والكتاب الثاني يُسمى (نيهونجي) المكتوب في عام 720م تقريبًا، وكلمة «نيهونجي» تعني السجل أو السجلات الحديثة أو الجديدة، ويحتوي هذا الكتاب على استعراض شامل لتاريخ اليابان، وبيان مكانة الإمبراطور وأسرته وعراقة الشعب الياباني.
ويقدس أتباع الشنتوية النظافة جدًا، ويكرهون كل القذارات وبخاصة ما يدنس الجسد أو الملابس، ويمتد اهتمامهم بالنظافة إلى صور كثيرة أخرى غير الجسد والملبس، ولعل ما يشاهده من يزور اليابان اليوم من نظافة في الشوارع وغيرها، هو نتيجة لتلك المعتقدات التي يدين بها غالبهم أبًا عن جد.
ويتعايش الشنتويون مع كل الأديان والمذاهب، فعقيدتهم سمحة لا تطلب منهم نهائيًا (معاداة الآخرين) لاختلاف العقيدة، فدينهم منهج حياة بسيط، ليس أكثر من منظومة مترابطة من العادات والتقاليد والأفكار المتوارثة.
وقد تكون زبدة القول - في تصوّري - هي أن الفلسفة أو الديانة «الشنتوية» خليط من ركنين كبيرين بارزين في العبادة، دخلت تحتهما أو نتجت عنهما مجموعة من الأفكار والمعتقدات والطقوس الصغيرة المختلفة.. والركنان الأساسيان هما (عبادة الأسلاف) و(عبادة الطبيعة).
وتبقى النقطة الأكبر هي أن الشنتويين يهيمون عشقاً في وطنهم، ويحبونه جدًا بكل صدق وإخلاص، وقد قامت فكرة حب الوطن وتقديس الأمة والقومية وما شابه على أساسات كثيرة، أبرزها تقديس الأسلاف الذين رقدوا في ثرى هذا الوطن، وكذلك تقديس أرضهم؛ لأن إمبراطورهم - الرمز الكبير لهم - يعيش عليها.
وسبب تقديس الإمبراطور يطول شرحه، وخلاصة ذلك أنه تقديس مرتبط بتقديسهم للشمس كما مرَّ معنا، فهم يعتقدون أن أرضهم (أرضٌ إلهية) وأن حكامهم من نسل آلهة الشمس، حيث يتكرر في الميثولوجيا اليابانية أن آلهة الشمس أرسلتْ أول حاكم لأرض اليابان، ثم جاء من نسله الحكام المتتابعون الذين يُسمّى الواحد منهم (إمبراطور).. ولعل هذه القدسية للأرض وحكامها هي السبب - كما يرى كثير من الباحثين - في ما نشاهده من تضحيات الجنود اليابانيين وغيرهم من الشعب الياباني في سبيل وطنهم.
نتوقف هنا الآن، ونبدأ الجزء القادم بمواصلة الحديث عن مكانة «الإمبراطور» عند الشنتويين.
وائل القاسم - الرياض