هل ممكن أن يغير بديع الزمان الهمذاني رأيه في ذم الكدية حينما يرى السوريين شيوخًا و شبانًا و أطفالًا يستجدون في شتى الدول العربية؟!
إذا كانت المقامة - وهي الفن العربي البديع- قد اتخذت من الكدية موضوعًا اجتماعيًا لها منذ نشأتها على يد الهمذاني و الحريري من بعده فإن موضوعها تحول فيما بعد إلى الوعظ كما عند السيوطي، و التهكم بالسياسي كما عند الوهراني .
و هذه التحولات في الموضوع تجعلني أستشرف المقامة في الجمع بين هذين الموضوعين السياسي/الكدية باعتبار السياسي سببًا رئيسًا في هذه الكدية ، لمَ لا و هو الذي كان سببًا في تهجير الملايين من السوريين لبقاع العالم، و قد رأيت شتاتًا منهم في عدد من الدول العربية كالمغرب و لبنان ، فالسياسي هنا السبب المباشر لهذه الكدية، فهو ذاته الذي جعل تلك العجوز التي رأيتها في لبنان لا تكاد تستطيع المشي وهي تمد يديها لاهجةً بالدعاء لمن يعطيها، وقد انعكف نصفها كالنخلة التي وطأتها طائرات السياسي، و هو السبب ذاته الذي جعل تلك الطفلة تقبّل الليرات التي أخذتها من أحدهم أكثر من قبلةٍ أمام عيني فحثتني على كتابة هذا المقال . والسياسي ليس هو السوري فحسب بل كل الساسة شركاء في هذا الجرم؛ لأن هذا هو منهجهم في الحفاظ على كراسيهم البائسة.
لم يهتم الأدب العربي كثيرًا بالمقامة فكل ما هنالك من هذا الفن إنما هو متفرقات قليلة جدًا لم تجعله يتطور و يصل إلى النضج بل و الولادة، لذا فإن موضوع الكدية الذي كان منتشرًا في زمن الهمذاني ظل هو الموضوع المسيطر لفن المقامة، وحتى تحوله إلى ذم السياسي مع مقامات الوهراني لم تكن بذلك الإبداع اللغوي الذي ابتدعه الهمذاني والحريري من بعده، و قد تكون المقامة تطورت مع هذا التطور السردي الذي وصل إلى الرواية لكنها تبقى إبداعًا متفردًا في الأدب العربي، و لو أن التطور نالَ موضوعها لما انطمست كفنٍ عربيٍ بديع، و بالخصوص حينما نعلم أنه يمنح المبدع حريةً لا حدود لها في السرد و النثر بما يوافق هذا الواقع الفكري و السياسي اللا محدود، و عندها سنرى أن الكدية تتحول من ذم للمستجدي أو الكادي إلى ذم مسبب الكدية و هو السياسي، و تضحي الكدية هنا مثارً لذم السياسي و الانتقاص من سلطويته التي كانت سببًا مباشرًا لكدية الكادي ، و حينها لن تصبح الكدية مذمومة لذاتها، كما كان عند الهمذاني، بل تضحى الكدية ذامةً للسياسي نفسه، فتتحول الكدية من مذمومة إلى ذامّةٍ، و تتحول المقامة من اجتماعية إلى سياسية اجتماعية.
صالح بن سالم - المدينة المنورة