في ضحى يوم الأربعاء 15-11-1437هـ الموافق 28-10-2015م غادرنا الفندق، واتجهنا إلى مجمع اللغة العربية، والأخ محمد الربيع يعرف المكان جيداً؛ لأنه عضو فيه، ويتردد عليه كثيراً، وليس في حاجة إلى دعوة مثلي، فهو من أرباب الدار. كان الأستاذ فاروق شوشة في استقبالنا في مكتبه فأهل ورحب، وجرى الحديث رخاءً في شؤون ثقافية ولغوية، وقال: مكتبي هذا كان مكتب أحمد لطفي السيد الذي كان رئيساً للمجمع قبل رئاسة طه حسين، وكان أيضاً مكتب إبراهيم الترزي ـ رحمه الله ـ الأمين العام للمجمع وقد عرفته في اجتماع جمعية لسان العرب في القاهرة، شخصيته سمحة لطيفة، طلب مني أن أرسل له سيرتي الذاتية، فلم أفعل. وأتاني نعيه بعد سنوات لا أعرف عددها. وكان من حضور الجمعية الدكتور كمال بشر وغيره من اللغويين. أهديته كتاباً، فأعطاه إحدى تلميذاته فوضعته في حقيبتها. أتانا زائراً في معهد تعليم اللغة العربية بالرياض ولما قدمته وذكرتُ تاريخ ميلاده باليوم والشهر والسنة دهش، فقال لي: كيف عرفت هذا؟ وأذكر أنه قدم محاضرة ارتجلها عن نشأة اللغة العربية وتطورها، فلما فرغ من المحاضرة سألته: لماذا لا تكتبها حتى تتمكن من نشرها؟ فأجاب: لا أستعمل القلم فيما أود أن ألقيه من دروس ومحاضرات. لقد عبت على المتحدثين في جمعية لسان العرب أنهم يبحثون في شؤون اللغة العربية، ويتحدثون في ذلك باللهجة المصرية.
وبالمناسبة عقد مجمع اللغة العربية بالقاهرة جلسة خاصة لتأبين الأستاذ الدكتور كمال محمد علي بشر يوم الاثنين 3-3-1437هـ الموافق 14-12-2015م،افتتحها الأستاذ فاروق شوشة الأمين العام للمجمع، وكلمة في تأبينه لرئيس المجمع الأستاذ الدكتور حسن الشافعي، وكلمة المجمع في تأبين الفقيد لنائب رئيس المجمع الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبداللطيف، وكلمة الأسرة. ثم ختمت الجلسة.
بعد أن استقر بنا المجلس في مكتب الأستاذ فاروق شوشة حضر الدكتور حسن الشافعي رئيس المجمع، وكنت قد عرفته في إسلام آباد، وكان ـ آنذاك ـ رئيساً للجامعة الإسلامية، ونائبه الدكتور أحمد العسال ـ رحمه الله ـ فدعانا للغداء أنا والدكتور محمود فهمي حجازي، والدكتور يوسف الخليفة أبوبكر مدير معهد الخرطوم الدولي في السودان وكنا من المشاركين في المؤتمر الدولي لتعليم اللغة العربية في باكستان الذي أقامته جامعة العلامة محمد إقبال.
لم يدخر أبو هشام وسعاً في تعريف الدكتور حسن الشافعي، والأستاذ فاروق شوشة بي، وباهتماماتي البحثية، ولم نشأ أن نطيل الزيارة؛ لأن لديهما اجتماعاً ربما أخذنا منه وقتًا. فودعناهما ومسيرة المجمع تمر بذهني منذ تاريخ إنشائه عام 1351هـ- 1932م، ومن تولى رئاسته، وهم ـ إن لم تخني الذاكرة ـ محمد توفيق رفعت، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وإبراهيم بيومي مدكور، وشوقي ضيف، وآخرهم حسن الشافعي، وصفوة أعلام اللغة والأدب والثقافة وسائر العلوم في مصر والوطن العربي، وثلة مخلصة لخدمة العربية من المستعربين الذين استحقوا بجهودهم عضوية المجمع.
بسعي أبي هشام أكملت نسختي بالأجزاء الصادرة من المعجم الكبير التي بلغت الآن الجزء التاسع (حرف الراء)، والعاشر لا يزال في المطبعة، وأتوقع أن يشمل بقية حرف الراء، وحرف الزاي. وأكملت أيضاً نسختي المخرومة من ديوان الأدب للفارابي (ت 350هـ)، وهو غير الفارابي أبي نصر الفيلسوف الموسيقي، وإن كان بعض المتقدمين خلط بين الاثنين. ولهذا الكتاب شرح كبير في عشرة أجزاء للغوري، رأيت المطرزي في شرحه لمقامات الحريري يرجع إليه كثيراً. وهو مفقود، ولا نعرف عن الغوري إلا معلومات يسيرة، وجدتها في معجم الأدباء، وإنباه الرواة، وكشف الظنون، ومصادر أخرى لا أتذكرها الآن.
وحصلت على نسخة من كتاب: مختارات وقطوف من تراثنا العربي، لمحمد شوقي أمين، وهو غير عبد الله أمين صاحب كتاب: الاشتقاق، قدم له الأستاذ فاروق شوشة رئيس لجنة النشر في المجمع. وكان المؤلف قد نشره منجماً في مجلة الهلال بين عامي 1953ـ 1961م، أيام رئاسة طاهر أحمد الطناحي لها وهو صحفي أديب، ويضم بين دفتيه دفائن ثمينة من التراث العربي، استخرجها المؤلف من مصادر عدة، ولكنه لم يذكر مصادره التي استخرج منها هذه النفائس، وهذا نقص حري بأن يتدارك. وعرفت من مقدمة الكتاب أن المؤلف الأخ الأكبر لمحمود أمين العالم الناقد المعروف، وكلاهما قضى نحبه.
كان الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية ومدير معهد البحوث والدراسات العربية المكلف لما علم بزيارتنا للقاهرة طلب من الدكتور محمد الربيع أن نسهم في إلقاء محاضرة مشتركة عن دور الشعر في تدوين أحداث التاريخ، فاتفقنا على أن يكون موعد المحاضرة ظهر يوم الخميس 16-1-1437هـ في مقر معهد البحوث والدراسات العربية. من حسن الحظ أنني كنت مهتماً بهذا الموضوع منذ سنين؛ فقد كتبتُ مقالة عام 1410هـ عنوانها (الشعر يدون التاريخ). بدأنا المحاضرة الساعة الواحدة ظهراً، تحدث أولاً الدكتور محمد الربيع فأفاض وأفاد، وكانت محاضرته دقيقة شاملة، والفضل للمتقدم، ثم تحدثتُ عن الموضوع نفسه، ومما قلته: إن الشعر الجاهلي قدم لنا معلومات عن العصر أكثر وأوفر مما قدمته كتب التاريخ، وحسبنا المدونة الشعرية لأيام العرب في الجاهلية، وأشرتُ إلى أن كتاب نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة ـ وهو شرح لشعر هذين الشاعرين في مناقضاتهما ـ دوَّن معلومات تاريخية عن العصر الجاهلي لا تظفر بها في كتاب آخر. وكذلك أنساب الأشراف للبلاذري، ويأتي بعده الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني؛ فالأشعار التي تضمنها تسهم في كشف جوانب وأخبار تاريخية، غفل عنها المؤرخون، مما دفعهم كابن جرير الطبري الذي حشى متن تاريخه بالمئات من الأبيات، ربما تصل إلى نحو ثلاثة آلاف بيت أو تزيد. وذكرت أن الشعر في كل عصر دوّن أحداث عصره، كالعصر الإسلامي والأموي والعباسي، والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي والحروب، خاصة الحروب الصليبية ونكبة بغداد، والصراع في الأندلس منذ أن دخلها العرب فاتحين إلى أن رحلوا عنها عام 898 هـ. وأضفت أن المؤرخين عنوا بتدوين الجانب السياسي للدول، ولم يعنوا بتدوين النشاط الاجتماعي والحضاري والثقافي للأمة إلا القليل الذي لا يكاد يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء. والشعر العربي عني بهذا كله.
قدم المحاضرة الدكتور فيصل الحفيان، وحضرها بعض أساتذة الجامعات والعاملين في المعهد ولفيف من طلاب وطالبات الدراسات العليا. ومن أبرز الحاضرين الذين عرفتهم سابقاً الدكتور أيمن فؤاد السيد، وهو من خبراء المخطوطات والتحقيق كوالده. سمعت أن المحاضرة بشقيها جيدة، نالت استحسان الجميع. قبل مغادرة المكان التقطت بعض الصور التذكارية.
في المساء كان لنا لقاء مثرٍ ممتع مع الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي في دارته التي رأيناها قد غصت بالكتب، فصالة الاستقبال وصالة أخرى تفضي إليها تفهق خزائنهما بمصادر التراث في النحو واللغة والأدب والتراجم وغيرها، ورأيتُ أن هناك شبهاً بين هذه المكتبة ومكتبتي في كثير من المصادر والطبعات أيضاً، أذكر منها طبعة شرح المفصل لابن يعيش، وكتاب سيبويه، ودائرة المعارف الإسلامية، طبعة دار الشعب، في مكتبته أحد عشر مجلداً منها، وفي مكتبتي ستة عشر مجلداً، والنسخة عندي غير مكتملة. أما اليوم الرابع فكان يوم جمعة قضيناه في راحة واستعدادٍ للعودة إلى الديار، وكانت رحلة مصر للطيران رقم Ms649، أقلعت من مطار القاهرة الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة السبت، ووصلنا الرياض بعد نحو ساعتين ونصف من الإقلاع. لقد كانت رحلة ناجحة مفيدة.
قسم الأدب - كلية اللغة العربية بالرياض