قبل أيام سألني أحدهم، هل يعيش الكاتب مع نصوصه؟ وكان يقصد المعيشة الحقيقية، أي يسمع أبطالها ويحس بوجودهم ويتحدث إليهم ويراهم ويرونه، سألني ذلك السؤال بعد أن قرأ جزءاً يسيراً من مسودة روايتي التي أعمل عليها حالياً، أجبته على الفور ودون تردد قائلاً: نعم، بالتأكيد!
لاحظت استغرابه الشديد، وتغيّر ملامح وجهه حين سمع إجابتي، لقد كان يتوقع إجابة دبلوماسية معتادة تتحدث عن كون الكاتب يستطيع أن يفصل بين الواقع وبين ما يعيشه في خياله، لكن إجابتي تلك جعلته يظن أنني مجنون على الأرجح!
أخبرته عن قصة الكاتب «يونس» الذي دأب على كتابة الروايات والقصص القصيرة، حين جفاه النوم في ليلة من الليالي الشتاء الطويلة، فخرج من فراشه يجر خطاه بتثاقل متجهاً إلى مكتبه العتيق في الغرفة المجاورة لغرفته، ارتمى بتكاسل وتملل واضح على الكرسي خلف مكتبه وظل يراقب تلك الفوضى على مكتبه من ركام أوراقه ومسودات قصصه، أخذ يقرأ بعضاً من كتابته وكأنه يستلهم من تلك القصص (البائسة) التي اعتاد أن يكتبها قصة (بائسة) وتعيسة!
استغرق في القراءة، وتمعن أكثر، وفجأة سُحِب الكُرسي الجانبي لمكتبه، وجلست عليه فتاة تبدو في العشرينات من العمر، فتاة جميلة جداً حتى إنه من شدة جمالها ظن أنها (جنية) وما طرأ في باله أن تكون إنسية بذلك الجمال أبداً، تمالك نفسه وابتلع ريقه وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويمسح حبات العرق من جبينه، قالت:
هل أبدو مخيفة لهذه الدرجة؟
حاول أن يبدو طبيعياً، تعوذ بالله من الشيطان الرجيم أكثر من مرة لكن الفتاة كانت تنظر إليه باستخفاف واضح، وكأنها تهزأ بخوفه الظاهر، كان يرتجف كطفل وهو رجل في الخمسين من العمر، مدت يدها وسحبت نصاً من بين كل تلك الأوراق المتناثرة بفوضى على سطح المكتب، لقد سحبت قصة عنوانها «جليلة تُحرِقُ صوتها» تلك القصة التي تتحدث عن فتاة باهرة الجمال، تضطرها الأقدار لتختار الموت صامتة، على أن تُخبر أهل قريتها المحافظين جداً عن حبيبها الذي سرق عُذريتها في ليلة غدراء وهرب!
قالت بهدوء بينما تمد بيديها نص القصة إليه:
ألم تعرفني بعد، أنا جليلة؟ جليلة الجميلة!
جليلة التي قتلتها بعد أن أحرقت صوتها في خدر جوفها، جليلة التي جعلت القرية يصرخون بها بعد أن عرفوا ما حل بها، بئس الجمال يا جليلة، جلية التي تمنت لو أنها دميمة الشكل على أن تموت بتلك الميتة، غارقة في حزنها على حبيبها الخائن، وغارقة في فضيحتها أمام أهل قريتها، وغارقة في انتظار موتها!
بدأ يونس يستعيد أحداث تلك القصة، فقال مدافعاً عن نفسه:
لكنك كنتِ شريفة ولم تخطئي كما تصور أهل القرية، كما أنكِ كنتِ وفية جداً، وضحيتي بحياتك من أجل ذلك الظل الهارب، ولم تأبهي، ألم تكفكِ تلك الخصال؟ تلك الخصال لو أن في الأرض سوقاً يبيعها لاشتريتها بأغلى الأثمان...
قاطعته صارخة:
لكن مع كل ذلك، متُ ببؤس شديد!
قتلتني أيها الكاتب التعيس!
جعلتني أموت بحسرتي ألف مرة قبل أن يلعن أهل القرية الذين لا يعرفون شيئاً سيرتي، واليوم الذي ولدت فيه وجئت فيه بالمشاكل والسمعة السيئة لقريتهم المحافظة! فبماذا نفعتني تلك الخصال أيها المتحذلق؟
أسقط في يد يونس، أشعل سيجارته، وظل يراوغ، محاولاً أن يخرج من ذلك المأزق الذي وضع نفسه فيه بعد أن جعل نهاية تلك الفتاة الجميلة بذلك الشكل البائس، كيف يقنعها بخصالها الحميدة التي صنعها لها بعد أن ختم قصتها بنهاية مأساوية؟
عادل بن مبارك الدوسري - الرياض
البريد الإلكتروني: aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26