هذه الحقائق دليل قاطع على أن ستالين كان واعياً تماماً لما يفعله، والذي يهدف للحفاظ على منصبه كمتسلط على الحزب والدولة، وهذه ليست فكرة طوباوية كما تفضّل زينوفييف إنما جريمة اغتصاب ارتكبها ستالين بحق ماركس وإنجلز ولينين والحزب السوفييتي والحركة اليسارية العالمية برمتها من خلال الكومنتيرن والأممية بعده.
ولكن ستالين لم يكتف بالإقصاء أو الاغتيالات الشهيرة لتصفية خصومه، إنما كرس الستالينية المقيتة كنهج لليسار العالمي، التي تعتمد التحريفية منهجاً للقضاء على الحركة اليسارية من داخلها، وهو أمر دعمته الرأسمالية بالقوّة والمال لمنع التغيير.
لقد حذّر لينين وهو على فراش الموت من تولّي ستالين بعده قيادة الدولة والحزب، ولكن عنفوان الثورة ونشوة الانتصار جعلت الحزب يختاره، خاصّةً وأنه قائد عسكري في ظل حرب أهلية أشعلها الرأسمال العالمي للقضاء على التجربة السوفييتية، ومع ذلك فإني أشكّ أن ستالين وصل إلى سدة الحكم بطريقة مشروعة، ولو كان لينين حياً سوف لن يقول، من وجهة نظري الخاصّة، انا لست لينينيا، بل لحكم على ستالين بالإعدام.
بقي ستالين حتى وفاته تحريفياً، فبعد أن جمع حوله عصابة تتستر بالماركسية - اللينينية، شرع بتشويه الفكر الإِنساني منذ أرسطو بأعمال نظرية مشبوهة.
يقول حسقيل قوجمان الذي ترجم كراس لستالين بعنوان (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية) (الحوار المتمدن - العدد 3805 في 2012.7.31 م): كان ستالين عضواً ((رئيسياً)) في اللجنة التي اضطلعت بكتابة موجز تاريخ الحزب... بعد صدور ((الدستور الاشتراكي)) عام 1936 وقد اضطلع ((ستالين بتلخيص كتابات لينين))... وحين بلغ تاريخ الحزب الفترة التي كتب فيها لينين كتابه الشهير «المادية والنقد التجريبي» وهو كتاب اختص بالدفاع عن المادية ((الديالكتيكية)) وتفنيد تحريفها الذي انتشر في فترة ((انتكاس)) نضال الحزب ((رأى ستالين)) أنه من العسير ((تلخيص)) كتاب ضخم كهذا ((ففضل)) كتابة هذا الكراس...الخ) ((الأقواس المزدوجة للكاتب))
تثير الحقائق المذكورة تساؤلات جمّة لا تتسع لها هذه المساهمة المتواضعة، ولكني سأحاول إضاءة المحطات الرئيسية:
1 - ساد خلال الحقبة الستالينية وما بعدها حتى يومنا هذا اعتقاد أن لينين هو الذي وضع مقولة تحقيق الثورة الاشتراكية في بلد واحد، بينما حارب هو هذه الفكرة غير الديالكتيكية، خصوصاً في كتابه المادية والنقد التجريبي، كما أن ستالين (لخّص) جميع كتابات لينين وليس كتاباً واحداً وحسب وهذه تحريفية تستوجب بحوث أكاديمية لم تتوافر حتى الساعة.
2 - أكد لينين على إمكانية الإطاحة بالسلطة البرجوازية في بلد واحد، خصوصاً في روسيا -أضعف الحلقات الرأسمالية - وبسط سلطة البروليتاريا صاحبة المصلحة في استكمال المرحلة (البرجوازية) حتى النهاية، كما أنه أشار في كتاب الدولة والثورة إلى أن الديمقراطية المزعومة في النظام الرأسمالي ليست لكل الشعب، إنما للطبقة المهيمنة، فهي في واقعها ديكتاتورية الطبقة المهيمنة، ومن أجل استكمال التطور الرأسمالي في بلد متخلف مثل روسيا لا بد من بسط نفوذ ديمقراطية الطبقة التي من مصلحتها استكمال المرحلة البرجوازية، ألا وهي البروليتاريا، أي بسط ديكتاتورية البروليتاريا. لقد ترك ستالين والستالينية الأساس (ديمقراطية البروليتاريا) وتلقفوا (الأي) ثم نفذوها في الحركة اليسارية (خير) تنفيذ، بحيث فرغت المركزية الديمقراطية من محتواها وأصبح المنافق والوصولي الذي يسعى لمجده الشخصي هو من يستحوذ على المناصب الحزبية، وأصبح نشاط الحزب سلطويا بدل أن يكون ثورياً.
3 - عن طريق هذا التشويه الإجرامي المقصود للماركسية من داخلها، استطاعت الرأسمالية دق أسافين داخل الحركة اليسارية في العالم وقسمت اليسار إلى اشتراكي وقومي وتقدمي وشيوعي وناصري.. الخ، يعادون ويقصون بعضهم بعضاً ويكرس كل منهم جهوده لإقصاء الآخر، ونسوا جميعاً الهم الوطني ومقارعة الاستعمار وعملية التنمية.
4 - يبرر الستالينيون أفعال ستالين بأنها أخطاء ارتكبت بحسن نية، فقد قدم ولده قرباناً في الحرب العالمية الثانية ولم يقبل مبادلته بجنرال نازي مأسور عنده. لست على يقين أن ستالين يمتلك إحساس الأبوّة، ولكني على يقين من أن أفعاله لم تكن بحسن نية! ودفن جثته بعد وفاته خارج الساحة الحمراء ثم نقلها داخل الساحة الحمراء بجوار ضريح لينين وتكرار ذلك، دليل على الاختلاف بين ما تبقى من وطنيين مخلصين في الحزب وبين العصابة العريضة التي عشعشت داخل الحزب إبّان حكمه.
5 - الانتصار العظيم في الحرب العالمية الثانية على الفاشية - الوجه الآخر للرأسمال - لم يحققه ستالين، بل حققه الشعب الذي ما زال يحمل زخماً مما أسسه لينين. ليس مستغرباً من الستالينيين نسبة الانتصار إلى شخص ستالين، بل ليس مستغرباً تبرير كل أفعاله المشينة وجر الأحزاب في العالم كلًه إلى عبادة شخصيته، ولكن الزخم اللينيني كون دولة عظمى، لم يستطع أساطين المال تدميرها من الخارج ولا التحريفية الستالينية من الداخل، وها هي تعود بعد أن (نفضت عن جناحيها غبار التعب) لتقود قطباً تحررياً يرتقي عددياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وفكرياً، ويضع شروطاً لنظام عالمي جديد يغل يد الرأسمالية ويكنسها إلى الأبد، فالفيل لا يمكن إدخاله أبداً في خرم إبرة.
6 - لن أتناول كل التحريفات التي قام بها ستالين، إنما أهمها على الإطلاق، وهي تكمن في (تلخيصه) لكتاب لينين (المادية والنقد التجريبي). بداية لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح (المادية التاريخية) لم يستخدمه أحد من الفلاسفة أو الثوريين منذ أرسطو حتى لينين، هل كان ذلك قصوراً فيهم؟ أم هو فطنة خارقة من ستالين بحيث يشتق من المادية والنقد التجريبي، الذي يدافع فيه لينين عن الموضوعة الماركسية المسماة المادية الديالكتيكية، مصطلحاً جديداً اسمه المادية التاريخية؟ والأنكى من ذلك أن ستالين أو الستاليون اشتقوا من هذا المصطلح (الجديد) مصطلحا آخر هو (الحتمية التاريخية).
التاريخ كلمة تستخدم للتعبير عن التسجيل للفعل الإِنساني الواعي، أي انه بحد ذاته ليس فاعلاً ولا واعياً سواءً كان ذلك التسجيل في الذاكرة أو المكتبة أو الحاسب الآلي، إنما النشاط الإِنساني هو الفاعل، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك مادية تاريخية، إنما يوجد منظور مادي للتاريخ، أي مقاربة الأحداث التاريخية من منظور واقعي حسب توصيات ابن خلدون ومنطق ماركس، كما أن الديالكتيك - هو حتمية الحركة التصاعدية التي تسمى تطوراً عندما يجري الحديث عن المجتمع أو التحولات الواعية للمجتمع المسجلة تاريخياً.
لقد عاثت الستالينية فساداً في النظرية والتطبيق، حيث شوهت نظرياً معنى الديالكتيك وأوحت لليسار في التطبيق أنه يكفي أن تضع رأسك على الوسادة وتنتظر الحتمية التاريخية لتصنع التغيير عوضاً عنك.
7 - أطلق ماركس صرخته الشهيرة (يا عمال العالم اتحدوا) ليس لأنه طوباوي حالم، إنما لأنه رأى ببصيرته الثاقبة أن الظلم الاجتماعي الرأسمالي يتعولم، وبالتالي مجابهة هذا الظلم لا يمكن تحقيقها إلا بعولمة مضادّة. ودعا لينين إلى إنشاء منظمة مختلفة في تكوينها عن المنظمات الشائعة في أوروبا سمّاها (حزب من طراز جديد)، يعمل أعضاؤه ضمن ترابط فكري وعملي وثيق، يعتمد المركزية من أجل مأسسة الممارسة، والديمقراطية من أجل عدم التفرّد بالقرار، أي أنه مأسس القرار الداخلي بحيث يصبح جماعياً وأمن الحماية من سطوة الرأسمال المحلّي والعالمي، وأسس الكومنتيرن لعولمة المواجهة المضادّة للرأسمالية، أي أنه وضع (يا عمال العالم اتحدوا) موضع التنفيذ، وهذه هي مأثرة لينين في التراث الماركسي كله، حيث لم يقتصر على شرح معنى المادية الديالكتيكية، إنما أنشأ وباقتدار الآليات التنفيذية (الواعية) لها. ثم جاء ستالين لينصب نفسه منظّراً وحرّف النظرية والتطبيق وشلّ عمل الكومنترن والحزب اللينينيين وأسس للمنهج الستاليني الذي يقضي على اليسار كلّه، ولكن هل استطاع إدخال الفيل في خرم إبرة؟
8 - تغير آليات الصراع من طور إلى آخر لا يعني انتهاء الصراع بل العكس، فانهيار الاتحاد السوفيتي الستاليني السابق وانبثاق ليس دولةً وحسب، بل أقطاب عالمية تنتهج الاقتصاد الواعي والمتحكّم بالسوق، التي يسميها الرأسمال (حرّة)، هو تطور للصراع الشعوبي الكوني المعولم وليس الستاليني المقيّد، هو النقلة النوعية التي نعيشها في مرحلتنا هذه، والتي توجب على جميع الدول، سواءً صناعية كانت أم نامية، أن تسارع لإعادة إنتاج أنظمتها المرهونة بالنظام الرأسمالي الذي سيصبح (سابقاً) والانخراط بالركب العالمي الصاعد.
د. عادل العلي - الرياض