ثانياً -
متابعة أدبيات جيل الرواد في المجمل
وقد ظهر من عمل الدكتور عسيلان متابعة أدبيات جيل الرواد في المجمل، وقد كانت عنايته متوجهة للمتابعة في المرتبة الأولى إلى عملي جوتهلف برجشتراسر: أصول نقد النصوص ونشر الكتب، وعبد السلام هارون: تحقيق النصوص ونشرها.
وجاءت المصادر التالية في مرتبة ثانية:
1- مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، للدكتور رمضان عبد التواب.
2- تحقيق التراث العربي: منهجه وتطوره، للدكتور عبدالمجيد دياب.
3- قواعد تحقيق النصوص، للدكتور صلاح الدين المنجد.
ويلاحظ على عمله في متابعته لأعمال هؤلاء السابقين مجموعة من السمات، هي:
أولاً- الأمانة في التوثيق بدرجة مثيرة للتقدير.
ثانياً- عدم متابعة الطبعات الحديثة للكتب المعتمدة، فهو مثلاً حين اعتمد طبعة كتاب عبدالسلام هارون التي صدرت سنة 1977م، وهي الطبعة الرابعة بعد طبعتي سنة1954م وسنة 1965م، وهو مثال جيد لمبدأ عريق مهم يعنى بمتابعة التطوير الذي يلحقه مؤلف ما بعمل له - نراه لم يحافظ على تطبيق هذا المبدأ في اعتماده طبعة كتاب برجشتراسر الصادرة سنة 1969م، مع وجود أخرى نشرها الدكتور عبدالستار الحلوجي سنة 1982م بدار المريخ بالرياض!
وكذلك فعل مع كتاب الدكتور عبدالمجيد دياب في طبعته الصادرة عن المركز العربي للصحافة، القاهرة سنة 1983م، مع صدور طبعة بعدها سنة 1993م عن دار المعارف بالقاهرة، ولا سيما وأن المؤلف يقول في مقدمة طبعته الثانية (دار المعارف، سنة 1993م، ص 7) عن الطبعة الأولى المعتمد في كتاب الدكتور عسيلان: «ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب: (تحقيق التراث العربي: منهجه وتطوره) سنة 1983م من المركز العربي للصحافة في ظروف صعبة.. وتعجل الناشر إخراجه، فكلف غيري عناء تصحيح هذا الكتاب والإشراف على إخراجه، فخرجت طبعته مشربة بأوهام وأخطاء وتصحيفات، حاولت استدراكها في الطبعة التي بين يديك (طبعة دار المعارف سنة 1993م).. فضلاً عمّا فاتني في الطبعة الأولى من قصور في شرح منهج التحقيق والتوثيق استدركته في الطبعة التي بين يديك».
وقد أطلت في التعليق على هذه السمة، لأن الكاتب الكريم الدكتور عسيلان، كما سيظهر في سمة تالية انشغل بنقد الأدبيات التي سبقته في حقل تحقيق النصوص التراثية، وبعض انتقاداته عالجه أصحاب هذه الأدبيات في طبعاتها التالية، مما كان يلزم معه التنبه لضرورة الاعتماد عليها من دون غيرها مما سبقها في تاريخ النشر.
ثالثاً- الانطلاق من قاعدة نقدية في معالجة مسائل تحقيق النصوص التراثية وهذه سمة جيدة في المجمل؛ ذلك أن الأدبيات السابقة في علم تحقيق النصوص التراثية ونقدها، وقع منها بحكم ريادتها مجموعة من الأمور تستوجب المعالجة النقدية عند التعامل معها، والنقل منها.
ولكن الظاهر أن بعضاً من الانتقادات التي أخذها الدكتور عسيلان على الأدبيات السابقة لم يكن في مجمله، ويمكننا أن ندل عليها في ما يلي:
1- التعرض للمؤلفين لا المؤلفات.
2- اعتماد طبعات لبعض الأدبيات رجع أصحابها وأصدرها مصححة منقحة.
3- الوقوع في التناقض، بمعنى أنه يعيب على بعض أصحاب الأدبيات السابقة أمورًا فعلها هو في كتابه.
ومن أمثلة ذلك:
أ- عاب الدكتور عسيلان على الدكتور رمضان عبد التواب الاستطراد في ذكر أقوال من سبق بالتأليف في هذا العلم، وهو عين ما فعله الدكتور عسيلان في مفتتح دراسته.
ب- ينتقد الدكتور عسيلان الدكتور رمضان عبد التواب في مسألة كثرة النقل عن برجشتراسر؛ إذ عد ستة وعشرين (26) موضعًا، وهو ما فعله الدكتور عسيلان مع أكثر من أدبية سابقة، فقد:
- نقل عن الدكتور رمضان عبدالتواب، واستشهد بأمثلته في عشرة مواضع: (52؛56؛58؛59؛129؛163؛171؛172؛178؛195).
- نقل عن برجشتراسر في أربعة عشر موضعًا هي: (129؛130؛133؛135؛142؛ 152؛160؛162؛163؛201؛203؛250).
- نقل عن عبدالسلام هارون في حوالي خمسة وعشرين موضعًا هي: (31؛37؛39؛55؛56؛68؛69؛74؛80؛89؛101؛102؛116؛127؛144؛ 177؛182؛183؛189؛191؛195؛246؛248؛250؛251).
ج- انتقد الدكتور عسيلان الدكتور رمضان عبدالتواب في أنه لم يشر إلى مصدر المعلومة التي تتعلق بإيثار برجشتراسر لنشر النسخة المسهبة على النسخة المختصرة لكتاب ما، فيقول (ص129): «وقد تطرق المستشرق برجشتراسر لهذه القضية.. حين تحدث عما سماه بالإبرازات.. وتبعه في ذلك رمضان عبدالتواب (ص:70) دون الإشارة إلى مصدر المعلومة عند ذكرها»! (انظر: في تحقيق النصوص ونقد الكتب، لخالد فهمى، دار الكتب المصرية سنة 2013م).
وبعيداً عن الدفاع عن الدكتور رمضان الذي أورد ذكر برجشتراسر (ص:69) في الإشارة إلى قضية تعدد إبرازات الكتاب الواحد، فإن الدكتور عسيلان نقل معلومة سبق إليها الدكتور رمضان، ولم يذكر أنه تأثره فيها.
وهذه المعلومة تتعلق بنشر كل من النسخة المسهبة والمختصرة بشكل مستقل (ص:129)، يقول الدكتور رمضان (ص:70): «إن كانت هناك إبرازات كل واحدة منهما مهمة، والفرق بينهما كبير، لا يمكن إيضاحه بإيجاز، فالأولى نشرهما جميعا»! ومصدر هذه المعلومة عندهما معًا هو وبرجشتراسر أيضًا!.
رابعاً- مشاركة الأدبيات السابقة جميعا في الإجمال والعموميات، ولا سيما في التقنيات والإجراءات، فقد جاء كلامه عن القضايا التالية مجملاً غير مفصل مع حاجته الماسة إلى ذلك التفصيل:
أ- تحرير النص:
يعد الدكتور عسيلان من أسبق من استعمل مصطلح تحرير النص في عنوان أحد مباحثه في هذا الكتاب (ص:167)، وقد ظهر أنه يرادف بينه وبين تصحيح النص وتقويمه، ولم يفهم من معالجته الإخلاص لمفهوم إخراج النص، وتنظيمه، وتنسيقه، واستقرت حدوده عنده في:
1- ضبط النص.
2- تنظيم النص وتوزيع معلوماته بين المتن والهامش.
والحق والتفصيل يقضي أن يشمل تحرير النص ما يلي:
1- تنظيم صفحات النص (تقسيم الصفحة):
- قسمة ثنائية (متن - هامش).
- قسمة ثلاثية (متن - هامشان).
2- تنسيق الصفحات:
- التفقير
- المحاذاة
- نوع الخطوط:( عنوانات - عنوانات جانبية - متن - هامش)
3- التنويع الكتابي لمحتويات النص في الصفحة (أنواع الرسم والخطوط).
4- ترقيم النص.
5- إملاء النص.
6- ضبط النص واستعمال علامات الترقيم فيه.
ب- الكتابة عن النص:
سبق أن قررت في كتابي: أنشودة المتن والهامش (دار النشر للجامعات، القاهرة، 2015م، ص223): «ولعل الدكتور عسيلان يكون أوسع أصحاب الأدبيات المعاصرة في الإشارة إلى عناصر الكتابة عن النص، من غير ترتيب معتبر، ومن غير بيان للوسائل والإجراءات التي تعين على تحقيقها، وتنفيذها».
فقد عرض لضرورة معالجة ما يلي عند الكتابة عن النص مشغلة للتحقيق:
- عرض محتوياته، وجديده.
- مدى تأثره بغيره وتأثيره.
- منهج النص (ملامحه - وطريقته في عرض مادته وتبوبيها - وتعامله مع الشواهد - وتوثيقها وعزوها - وتعامله مع مصادره - وأنواعها).
ومع ذلك فإننا عند معالجة الكتابة عن النص اقترحنا التفصيلات التالية في كتابنا: أنشودة المتن والهامش (ص: 225، وما بعدها):
أولاً- الانتماء المعرفي للنص، ويعين على بيانه:
1- عنوان النص.
2– فحص مقدمته.
3- فحص مصادره.
4- فحص مصطلحيته.
5- فحص شواهده.
6- فحص مسائله.
7- فحص عنوانات أبوابه وفصوله.
8- فحص ترتيب فصوله وأبوابه.
ثانياً- تراث المؤلفات في مجال النص أو حقله المعرفي، أو فنه.
ثالثاً- بنية النص: المنهج - والمصادر.
1- المنهج (المعلومات - وترتيب المعلومات - ونوع التأليف - وطريقة التأليف - وطريقة الاستشهاد والتعليق... إلخ).
2- المصادر: (بيان أنواعها: مباشرة وغير مباشرة - وتقييم مصادر النص - وطرائق النقل منها: نص صريح أو تلخيص أو إشاري - ووظائف المصادر).
رابعاً- أثر النص فيما بعده.
خامساً- مقاصد النص (مسالك الكشف عنها: مقصد العلم العام - والمقدمة - والإشارات الداخلية - وأنواع المقاصد).
ويبقى أن نقرر أن كتابه يمثل خطوة على طريق الإحياء الجديد لعلم تحقيق النصوص التراثية، وهو الإحياء الذي يرجى منه تجاوز ما جاء مجملاً في عمل جيل الرواد من المستشرقين والعرب جميعاً.
ولعل هذا الإحياء الجديد أمامه مسارات لازمة يمكن الإشارة إليها في:
أولاً- استقلال فرع دراسة النص، والتقديم له، ودراسة تراجم المؤلفين، والوصف المادى المنضبط للأوعية (المخطوطات).
ثانياً- فرع عمليات التحقيق، وإجراءاته وأدواته، ومفاتيح التعامل مع النصوص وتوثيقها وقراءتها والتعليق عليها، ومعالجتها واستكشافها.
ثالثاً- فرع التكشيف وصناعة الملاحق.
وربما تمدد الإحياء الجديد إلى مسارات أخرى من مثل:
أولاً- فرع مقاصد علم تحقيق النصوص، ووظائفه.
ثانياً- فرع تأسيس يتعلق بنظرية تحقيق النصوص، وتأصيلها صناعة وم لكة.
ثالثاً- فرع لتحرير النصوص المحققة، وإخراجها وتصميها.
ولعل الدكتور عسيلان يغير عنوان الكتاب في المستقبل، ليكون: تحقيق النصوص التراثية بديلاً عن تحقيق المخطوطات؛ لأن المخطوطات هي الأوعية، والمقصود هو ما تتضمنه وتضمه من نصوص!.
(1 -3) مصادر الكتاب.
تنوعت المصادر التي استعملها الدكتور عسيلان في بناء كتابه، وكان أهمها مجموعة المصادر الخاصة بعلم تحقيق النصوص التراثية في التقليدين الاستشراقي والعربي المعاصرين، فقد اعتنى بالرجوع إلى كثير جدًّا منها، مما يرقى بمنزلة تعامله مع مصادر الفن المعاصرة، فضلاً عن استعماله مصادر تراثية كثيرة، ولا سيما كتب المحدثين الذين عنوا بهذا العلم وقواعده، وكان الرجوع إلى هذه المصادر لتحقيق وظائف متعددة هي:
أولاً- الوظيفة البنائية، أي استثمارها في البناء العلمي للكتاب.
ثانياً- الوظيفة الاستدراكية، أي استثمار المصادر للاستدراك عليها وتصحيح ما وقع منها.
ثالثاً- الوظيفة النقدية، أي العودة لعدد من المصادر المعاصرة في علم التحقيق بهدف نقد مسالك أصحابها في بعض المسائل العلمية.
- أ. د. خالد فهمي